لبنانُ طالِعٌ مِن غَدواتِ الأواتيَ لا مِن مَوروثاتِ المَواضِيَ فَحَسبِ، لِيَبوحَ بِمَكنوناتِهِ وَقعاً في الزَمَنِ بِخُشوعِيَّةٍ أقوى مِن كُنهِ السُطوعِ.

هوَذا سُلطانُهُ: المُجاهَرَةُ بِشَهادَةٍ مُزدَوِجَةٍ مِن جَذرٍ واحِدٍ: إختيارٌ وَرَجاءٌ. مَنشأُها حَياتُهُ الَتي تُتَوِّجُهُ بالجِدِّ: هوَ دَليلُ ذاتِهِ لِذاتِهِ. وَمِنَ الشُهُمِ الوقوفُ على أصلِ دَليلِهِ لِذاتِهِ لِلأخذِ بِصِدقِيَّةِ فَرادَتِهِ.

هوَ لَيسَ إصطِلاحاً مِنَ العَتيقِ بَل واقِعاً حَميماً لِلما بَعدِ بَعدِ لَم يَلِق إلَّا لَهُ، في جُهوزِيَّةٍ أقلَقَتِ مُعاصِريهِ، فإبتَغوا الإجهازَ عَلَيهِ، لِأنَّ قَلَقَهُم الَذي غَدا جِزءاً مِن وجودِهِمِ أصابَهُم في الجَوهَرِ مُنذِراً بِكُسوفِهِمِ. فَما كانَ مِنهُمُ إلَّا إجتِرارَ الفُتوحاتِ والغَزواتِ، الإجتِياحاتِ والإحتِلالاتِ، سَبيلاً لإِثباتِ ذَواتِهِم. هاكَ التاريخُ يَستَجلِبُ عَلَيهِ البابِليِّينَ، والأموريِّينَ، والحِثِيِّينَ، والفَراعِنَةَ، والإسكَندَرَ، وَجَحافِلَ الفُرسِ، وَجُيوشَ روما، فَمُرتَزِقةَ المَماليكَ وَإنكِشارِيَّاتَ بَنيَ عُثمانِ... وَمُخَلَّفاتَهُمُ.

وهوَ ما إختارَ إلَّا غَلَبَةَ الحضارَةِ، أرفَع مِن أيِّ ظَنٍّ: حَضارَةَ الوَطَنِ الأُمِّ وَمَهاجِرِهِ، على إمتِدادِ العالَمِ، عَلى ما يؤَكِّدُهُ سَنخوني أتُنُ مُنذُ القَرنِ الحاديَ عَشَرَ قَبلَ الميلادِ، وَيَشهَدُ لَهُ القِدِّيسُ أغوسطينوسَ في القَرنِ الرابِعِ بَعدَهُ. وَكِلاهُما لَهُ، هَذا الُلبنانُ البِكرُ: ألأوَّلُ مِنهُ، والثانيُ مِن أفلاذِ مَهاجِرِهِ التي مِنهُ. وَبَينَهُما كَوكَبَةٌ بِهَوِيَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، مِن فيلونَ الجُبَيليَّ الى نقولا الدِمَشقيَّ، وَمِن أُوسابيوسَ القَيصَرِيَّ الى بورفيروسَ الصورِيَّ، وَمِن هيرودوتَ اليونانِيَّ الى ديوجينوسَ اللايِرسِيَّ، وَبَعدُهُمُ الأب بارتِيليميَّ الفَرَنسِيَّ ومواطِنِيهِ إرنِست رونانَ وَموريس دونانَ وَكلود شايِفِرَ... أوَنَنسى سترابونَ الجازِمَ بأَنَّ أبنَاءَهُ بَلَغوا البَحرَ الأسوَدَ، رَبطاً لآسيا الصُغرى (بِلادِ فارِسَ، وَما بَينَ النَهرَينِ، وَشِبهَ جَزيرَةِ العَرَبِ، وَتُركيا) بآسيا-الأوروبِيَّةِ (روسيا، وأوكرانيا، والسلافِ)، وإجتازوا المُتَوَسِّطَ دَوَراناً حَولَ إفريقيا وَبُلوغاً لِلأطلَسِيَّ؟.

بِوَجهِ الطُغيانِ، أن يَكونَ لبنانُ بِكراً لِذاتِهِ يَعني إختِيارَهُ لِقُدسِيَّةِ الحَياةِ: ما قَبلَها (بإيمانِهِ بِثالوثِيَّةِ الأُلوهَةِ)، وَفيها (بِتَعَدُّدِيَّةِ بَشَرِها) وَما بَعدَها (بِرَحابَةِ العُبورِ مِنها إلَيها بالمَوتِ). ألَيسَ فيلون البيبلوسِيُّ مَن لَحَظَ ذَلِكَ، ما دَفَعَ بِمانيتونَ المُؤَرِّخَ الى الجَزمِ أنَّ الفَراعِنَةَ مِن أصلٍ فينيقِيِّ، لِقَناعَتِهِم هَذِهِ؟ ألَيسَ ذاكَ ما كَرَّسَتهُ المَسيحِيَّةُ في جُهوزِيَّتِها الأَصيلَةِ، مُستَغرِقَةُ فيهِ، عَلى نَحوٍ لا رَيبَ فيهِ.

وَيُستَشَفُّ مِن سُلطانِ بِكرِيَّةِ لبنانَ الى الأواتِيَ، أنَّها لَيسَت مُقَيَّدَةً فيهِ بَل رُنوُّها الإنفِتاحُ الى الخَليقَةِ، فيما الطُغيانُ يَستَغلِقُ المَخلوقاتَ عَلى ذاتِها وَضِمنَ مُعَسكَراتِ مُعتَقِليها. أفي ذَلِكَ إبتِغاءُ لبنانَ إدراجَ الخَليقَةَ في مَكنونِيَّةِ حَقيقَتِهِ، حَيثُ لا قيودَ بَعدُ تُفَرِّقُها عَن حَقيقَةِ طَبيعَتِها؟.

بِكرُ الغَدواتِ

أن يَكونَ لبنانُ طالِعاً مِنَ الغَدواتِ وَإلَيها لا مُستَسلِماً لِلمواضِيَ، حَصرِيَّةٌ تَجعَلُ مِنهُ مِحوَرَ سُلطانِهِ، في إزدِواجِيَّةٍ مُلتَحِمَةٍ: إنطِلاقاً مِن كَينونَتِهِ، وَفي كَينونَتِهِ مِن أجلِ...

في هَذِهِ الإزدِواجِيَّةِ، لا نِسبِيَّةَ، بَل كُلَّ المُطلَقِ. إذ فيها إندِماجُ الهُوِيَّةَ بالفِعلِ، إتِّحادُ الفاعِلَ بِصَنيعِهِ. بِتَعبيرٍ آخَرَ: إضفاءُ الكَينونَةَ عَلى الوَقائِعَ.

هوذا مَذهَبُ لبنانَ: الضَبطُ بَينَ الكَينونَةِ والتَجَسُّدَ.

ذَلِكَ جَوهَرُ بِكرِيَّتِهِ لِلغَدواتِ!.

هَذا التَجذيرُ لِلُبنانَوِيَّةِ لبنانَ لَيسَ إحلالاً عابِراً، بَل نَقيضَهُ التامَّ. وَيَقتَضي مَعَهُ الإعتِرافُ أنَّ المَواضِيَ بِحَقِّهِ لا تُسبَرُ أغوارُها إلَّا إنطِلاقاً مِنهُ، والأَواتِيَ مِن حَقِّ حَقيقَتِهِ لا تُدرَكُ إلَّا مِن أفلاذِ بُناهِ... حَيثُ يَلتَئِمُ، في القُدسِيِّ، الإنسانُ واللهُ.

تِلكَ كَينونَةُ لبنانَ البِكرَ، الكَينونَةُ الرَضِيَّةُ، في حالِيَّاتٍ مُتَجَوهِرَةٍ تَجَدُّداُ لِلخَليقَةِ لا قَضاءً عَلَيها بِراديكالِيَّاتِ قَلَقِ الإلغائِيِّينَ.