يبدَأُ القدّاس الإلهيُّ يومَ الأحَد ليتورجيًّا مع إعلانِ الكاهِنِ بصوتٍ جَوهرِيّ، عندما يَرسُمُ بالإنجيلِ المقدَّسِ إشارةَ الصليبِ المقدَّس ويُعلِن قائِلًا: "مُبارَكةٌ هي مملكةُ الآبِ والابنِ والروحِ القُدُس، الآن وكلَّ أوانٍ وإلى دهرِ الداهرين"، حيثُ نَنطلقُ إلى الملكوتِ السماويِّ في رحلةٍ إلهيَّةٍ مع الرّبِّ يسوعَ المسيح.

مَن أتى بشَوقٍ إلى الكنيسَة، وكانَ قلبُه مشتعِلًا بحبِّ الرّبِّ ولُقياه، يَخالُ نفسَه قد انتَقَل إلى موطِنِه الأوَّل الذي هو في السَّماء، ولا يعودُ يطلبُ إلّا رحمَةَ القُدّوس. وهُو موقِنٌ في قَرارَةِ نَفسِهِ مِعنى هذهِ الآيَة: "فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلًا، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ" (أف 2: 19). فَكلُّ الطغماتِ الملائكيَّة تُسبِّح، وكذلكَ سائِرُ القدّيسين، وعلى رأسِهم والدَةُ الإِلَه.

إِن أغلقَ المُصلّي عينَيه، يُبصرُ نورًا ما بَعدَه نور! وإن فتَحهما يُشاهِدُ الأيقوناتِ النورانِيَّةَ حَولَه. وفي كِلتا الحالَتَين يكونُ هو في النُّور. يَمُرُّ الوقتُ بسرعةٍ كَبيرَة، فالعطشانُ إلى ماءِ اللهِ الحَيّ يَرتَوي ويطلبُ المزيدَ ويُروي الآخرين. حَلاوة ما بَعدَها حَلاوة!.

نصوصٌ تُقرأُ وصلواتٌ تُتلى، وطلباتٌ تُرفَع، وتراتيلُ تُرَنَّم. تُشَكّلُ كلُّها باقَةً روحيَّة متناغِمَة هدفُها واحِد: عَيشُ التَدبير الخَلاصِيّ الذي تَمَّمَهُ الرّبُّ مِن أجلِ خلاصِنا.

يقولُ القدّيسُ سيرافيم ساروفُسكي إِنَّ كلَّ الصلواتِ لا تُشكِلُّ هَدفًا بِحَدِّ ذاتِها، بل هيَ وسائلُ لكي نَعي هَدفَ وجودِنا في هذِه الحَياة، أَلا وَهوَ الامتلاءُ مِنَ الروحِ القُدس.

عَودةً إلى القدّاسِ الإلهيّ. يَسبقُه صلاةُ السَّحَر التي تختلفُ مُدَّتُها بينَ الرعايا والأديارِ بشكلٍ عام، بينَ مختَصَرَة وكامِلَة. وقَد تتراوَحُ بينَ الساعةِ والساعَةِ والنصفِ تَقريبًا.

أهَمِيَّةُ صلاةِ السَّحَر كَبيرةٌ جِدًّا، إِن مِن ناحِيَةِ تركيبَتِها الليتورجِيَّة التي تُحاكي التدبيرَ الخلاصِيَّ الذي تَمَّمَهُ الرّبُّ لخلاصِ الإنسان، وإِن مِن ناحِيَةِ التعليمِ الذي تُقَدّمُه للمؤمِن حتّى يَعي إيمانَه ويَفهمُه، ويكونَ أيضًا على بَيِّنَةٍ لما هو مُعَيَّدٌ له في ذلكَ اليَوم. فالإيمانُ والمعرفَةُ يَسيرانِ معًا.

إذًا، أَن ننهضَ مِن نومِنا صَباحَ الأحَد باكرًا للذهابِ إلى صلاةِ السَّحرِ والقُدّاسِ الإلهيّ، ليسَ نهوضًا مِن النومِ فَحَسب، بل هو استيقاظٌ روحِيٌّ بكلِّ ما للكَلِمَةِ مِن مِعنى. هو استيقاظُ عاشِقٍ لملاقاةِ مَعشوقِه، هَذا تَمامًا ما أَنشَدَه داودُ الملِك: "يَا رَبُّ، بِالْغَدَاةِ تَسْمَعُ صَوْتِي. بِالْغَدَاةِ أُوَجِّهُ صَلاَتِي نَحْوَكَ وَأَنْتَظِر" (مزمور 3:5).

إِنْ أشرقَتِ الشّمسُ المخلوقَةُ وسَطَعَ نورُها علَينا، فهوَ لكي تَشرقَ الشَّمسُ غَيرُ المخلوقَةِ في قُلوبِنا وتُحيينا، وينبَثَّ نورُ الرّبِّ في طَيّاتِ أرواحِنا. عِندئِذٍ نسمَعُ بولسَ الرسولِ ينادينا: "اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ" (أف 5: 14).

ستَةُ مزاميرَ تُقرَأُ في بدايَةِ صلاةِ السَّحَر. لا أَحد يَتحرَّكُ مِن مَكانِهِ أثناءَ تِلاوَتِها، بل يَتَسَمَّرُ في مكانِه، كَمَن يقفُ في الدَينونَة أمامَ المِنبَرِ الإلهيّ، راجِيًا رحمَةَ الرّبِّ وخَلاصِه.قرذتها

كَذلكَ يَقرأُ الكاهنُ في هذا الوقت إثنَي عشَر إفشينًا لصلاةِ السَّحَرِ هَمْسًا، فَهيَ تَجمَعُ بينَ طَلبِ الرحمَةِ مِن الرَّب، وبينَ الشُكرِ له على إعطائِنا نهارًا جَديدًا لنَتوبَ فيه، ونعرفَ وصاياهُ لنعملَ بها.

عندَ الانتهاءِ من قراءَةِ المزاميرِ الثلاثَةِ الأولى، يخرُجُ الكاهِنُ من الهَيكَل، ويَقِفُ بكلِّ خُشوعٍ أمامَ أيقونَةِ السَيِّد التي هِي على الإيقونِسطاس[1] ، وَيُصَلّي هَمْسًا ما تَبَقّى له مِن الأَفاشين.

عندما يقولُ القارِئُ: "المجدُ للآبِ والابنِ والروحِ القُدُس"، بعدَ المزمورِ السَحَرِيِّ الثالِث، لا نَرسُمْ إشارَةَ الصليبِ على أجسادِنا، بل نَبقى دونَ حراكٍ كَوننا لم نَزَل واقفينَ وكأَنَّنا أمامَ مِنبَرِ الدَينونَة. ويَترافَقُ معَ خروجِ الكاهِن مِن الهيكَلِ حينذاك بدايةُ المزمورِ الرابِعِ مِن المزاميرِ السِتَّةِ (مز 87) الذي مَطلَعُهُ: " يَا رَبُّ إِلهَ خَلاَصِي، بِالنَّهَارِ وَاللَّيْلِ صَرَخْتُ أَمَامَكَ، فَلْتَأْتِ قُدَّامَكَ صَلاَتِي. أَمِلْ أُذُنَكَ إِلَى صُرَاخِي".

الأَمرُ الرائِعُ والجميلُ جِدًّا هوَ ما يَحدثُ قبلَ البَدءِ بالمزاميرِ مُباشَرَةً وبَعدَ الانتِهاء مِنها.

فَقبلَ البَدءِ بِها يَقولُ القارِئُ: "المَجدُ للهِ في العُلى وعَلى الأرضِ السَلامِ وفي الناسِ المَسَرَّة" (ثلاثُ مرّات).

هذِهِ هي تَسبِحَةُ الملائِكةِ الذينَ ظَهروا ليلًا على الرُعاة، بَعدَ أن بَشَّرَهُم ملاكُ الرَّبِّ بِولادَةِ المُخَلِّص. لَم تُضِئ في تلكَ الليلَةِ المجيدَةِ سَماءُ الرُّعاةِ فَحَسب، بل سَماءُ البَشريَّةِ كلِّها.

هذا هو تمامًا المَقصَدُ الليتورجيّ: أَن نَعبُرَ من ظُلمَةِ الخطيئةِ وسَوادِها إلى نورِ الوِلادَةِ الجَديدَة والقِيامَةِ المَجيدَة. يَصلُ هذا العبورُ إلى كَمالِه بِتناوُلِنا مِن القُدسات. هذا ما قالَه الربُّ لَنا: "مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ" (يوحنّا 6: 54).

ولَكِن حَذارِ مِن عدمِ التّوْبة! كما قالَ رسولُنا بولُس: "لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ"، لأن: "الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاق يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ" (1كورنثوس 11: 27).

تَظهَرُ محبَّةُ الرّبِّ اللامُتناهيَة استِجابَةً لنا بَعدَ المزامير. إذ إنَّ الكاهِنَ يدخلُ إلى الهيكلِ مِن جديد، وَيَتلو الطلبَةَ السلامِيَّةَ الكُبرى بفرحٍ كَبير. وَتُرتِّلُ الجوقَةُ بعدَ ذلِك: "اللهُ الربُّ ظهَرَ لنا مبارَكٌ الآتي باسمِ الربّ"، أًربَعَ مَرّات. وذلكَ إشارَةً إلى أنَّ خَلاصَ الرّبِّ يَشمُلُ المسكونَةَ جَمعاء بِجهّاتِها الأَربَعَة. إنَّه خلاصٌ شامِلٌ لكلِّ الشُعوب! كيفَ لا والرّبُّ يسوعُ المسيح هوَ المخلِّصُ الوَحيد.

تُتابِعُ خِدمَةُ السَّحَرِ مَسارَها، فَيُقرَأُ إنجيلٌ قِياميٌّ، وَمِن ثُمَّ مَزمورُ التَوبَة (50)، فيما يَخرجُ الكاهنُ بالإنجيلِ المُقدَّس، ويقفُ أمامَ البابِ الملوكِيّ، فَيُقبِّلُ الشَعبُ الإنجيلَ شَهادَةً لِقيامَةِ المسي وخلاصه.

تَتَوالى الطَلباتُ والصَلواتُ والتَسابيح، فتَتَّحِدُ الكنيسَةُ كلُّها بالعالَمِ العُلوِيّ، فَالسَّماءُ كلُّها تَكونُ على الأَرض.

قَبلَ وُصولِ خِدمَة صَلاةِ السَّحَر إلى خَواتِمِها والبَدءِ بالقُدّاسِ الإِلهيّ، يَعلو صَوتُ الترتيلِ بشكلٍ مُلفِتٍ مع المجدَلَةِ الكُبرى. حينئِذٍ تُضاءُ الشُّموعُ التي عَلى المائِدَةِ المقدَّسَة في الهَيكلِ وفي الكنيسَةِ كُلِّها تَماشِيًا مَع ما يُرتَّل: "المجدُ لَكَ أَيُّها المُظهِرُ النُّور".

تَجري العادَةُ في الأديارِ أَن يبدأَ الرهبانُ بِصلاةِ السَّحَرِ قبلَ طُلوعِ الشَّمس، لِتكونَ المجدلَةُ الكُبرى عندَ شُروقِها، مُشابِهينَ بذلِكَ مَجيءَ النِسوةِ حامِلاتِ الطيبِ إلى القَبر.

هَذا هوَ إيمانُنا وفَرَحُنا، وهذِهِ هي تَعزِيَتُنا.

إلى الربِّ نَطلُب.

[1] جِدارٌ يَفصِلُ بينَ الهَيكلِ وصَحنِ الكنيسَة توضَعُ عليهِ الأيقوناتُ المُقَدَّسَة.