كُلُّ ما يُمكِنُ أن يَجعَلَكَ تَكرَهُ العالَمَ لَيسَ في لبنانَ. خِلافُ ذَلِكَ، أنتَ لا تَعرِفُ لبنانَ.

والحَقَّ أنَّهُ لَيسَ أبَداً إنضِباطِيَّاً في الإنضِمامِ الى مَنقوصاتِ الأثَرِ، إذ هو قائِمٌ على إتقانِ مَسؤولِيَّةِ عَصرَنَةِ الواقِعِيَّةِ وإبتِداعِ المِثالِيَّةِ، مِن دونِ إدماجٍ، مُذ كانَ... في فِكرِ الإِلَهِ. أغَيرُهُ يَعتَنِقُ تَعانُقَ الأرضِ والسَماواتِ وَهوَ الأُمَّويُّ في إنخِراطِهِ في المُطلَقِ مِن أعماقِهِ الى مُنتَهاهُ؟ أغَيرُهُ مُكَرِّسٌ نَفسَهُ مَسؤولاً عَن ذاتِهِ والعالَمِ، وَمِن عِندِهِ مَن صَرَخَ: "أنا هَيك... ما وَقَع ظُلم عَ إنسان بِهالأَرض، إلَّا وَحَسيَّت حالي أنا الِّلي إنظَلَمت" (ميس الريم، للأخوين رحباني)؟.

هَذا المَفهومُ الإِنسانِيُّ الخالِصُ الطُهرَ، ما إنبَثَقَ إلَّا مِنهُ، مُذ غَدا... في تَجسيدِ البَشَرِ. أغَيرُهُ يُهوي الجُدرانَ بَينَ الأفرادِ والشُعوبِ، وَهوَ الأمَّويُّ في ذاتِهِ تَنتَفي الفَردانِيَّةُ؟ أغَيرُهُ يَعتَزِلُ المادِيَّاتِ أُطُراً، وَمِن عِندِهِ مَن شَهِدَ: "الطَيَّارات رماديِّة مِتل التِرغَلّ. إنفِجار القنابِل فِضيّ بِلَون الشَمس. ناس بالخَنادِق، ناس بالبارات. العَدالِة كَرتون. الحُرِيِّة كِذب. صار الحَبس كْبير. وكِلّ حِكم بالأَرض باطِل. حَلُّو يُطلَع الضَو" (لولو، للأخوين رحباني)؟.

أجَل! لبنانُ، مُذ كانَ وَغَدا، ما إعتَزَل الخَليقَةَ مُباغَتَةُ، وَما رَفَضَها كَمُعضِلَةٍ، وَما نَقَضَها بِظَلامَةٍ. هو مِلحاحٌ، صارِمٌ، في حَبكِها مَبادِىءَ وَرَصفِها حَيِّزاً لِتَجسيدِ الحَقِّ الأَحَقِّ. لَولاهُ ما إمتُشِقَ أصلٌ لَصيقٌ بإنسانِيَّةٍ جامِعَةٍ. وَمِن دونِهِ هُروبٌ الى الإلغائِيَّاتِ التَخَصُّصِيَّةِ، والجَبرِيَّاتِ المأزِقِيَّةِ، في مِزاجِيَّاتِ إعدامِ النَفسِ والروحِ والجَسَدِ.

كُلٌّ مُتَسِمِّر لِعَصَبِيَّةٍ، أَمَّا لبنانُ فَشامِلٌ لِلحَياةِ!.

وَشُمولِيَّتُهُ في تَجَرُّدِها، تَنطَلِقُ مِنَ العامِّ الى الخُصوصِيَّةِ، مِنَ المُطلَقِ الى سواسِيَّةِ المُطلَقِ. فَلا إعتِظامَ إلَّا فيهِ وَمِنهُ... حينَ الكُلُّ في إنعِزالِيَّاتٍ تَقبَعُ في إنعِزالِيَّاتٍ، وَتَلَهِيَّاتٍ تَستَنسِخُ تَلَهِيَّاتٍ. أهو واجِبُ الكَمالِ مِنَ الماضي الى الحاضِرِ فالآتي؟ هو وجوبُ إلتِزامِ الكُلِيَّةِ نِذراً، وَعَيشِها غايَةً. في هَذِهِ الوِحدَةِ، لا عَجَبَ لَدَيهِ في صِياغَةِ الحَقِّ عَبرَ الخَيرِ والجَمالِ مَعاً، إذ لَيسَ كُلٌّ مِنهُمُ مُنفَصِلاَ عَنِ الآخَرِ كَمَفاهيمَ لا تُلمَسُ إلَّا مِن خارِجٍ، بَل مَنهُ وَفيهِ تَتَعانَقُ حَولَ الإنسانِيَّةِ كَجَوهَرٍ لا فَواصِلَ تُقامُ بَينَ مَناهِجِهِ وَتأدِيَتِها.

هي القَومِيَّاتُ تَمَثلَنَت لِتَتَّسِعَ، فَتأدلَجَت لِتَسجُنَ مَن إحتَبَسَتهُ في مَناصِبَ أو أحزابَ أو رُقَعٍ جُغرافِيَّةٍ، إتنِيَّةٍ، دينِيَّةٍ، عِرقِيَّةٍ، أو ثَقافو-إجتِماعِيَّةٍ. أُمَّوِيَّةُ لبنانَ، إندِفاعَتُها الأُولى الى الأقصى: إنسانِيَّةٌ-جَوهَرُ.

إنسانِيَّةُ الحَقيقَةِ

ها بَلَغَت مَدارِكَها تِلكَ الأُمَّوِيَّةُ الُلبنانِيَّةُ: إذ تُنتَهَكُ الإِنسانِيَّةُ بالظُلمِ، بالبَشاعَةِ، بالأَلَمِ، تَتَعَرَّضُ حَقيقَةُ لبنانَ لِلإِنتِهاكِ. أجَل! فَحَقيقَةُ لبنانَ هي في إنسانِيَّةِ الحَقيقَةِ. والحَقيقَةُ مُطلَقَةٌ في إنبِثاقِها مِن لبنانَ.

مُذ سُقراط، والحَقيقَةُ مَكلومَةٌ في سِجنِ النَظَرِيَّاتِ. في لبنانَ، هي حُرَّةٌ: مُحَرَّرَةٌ مُبيدَةٌ لِلخَوفِ، مُحَرِّرَةٌ مُبطِلَةٌ لِلأَغلالِ. هي إنسانِيَّةٌ جامِعَةٌ لا وجودَ لَها خارِج الحَقيقَةِ. لا قَيدَ لَها وَلا قُيودَ عَلَيها، لا يُفَرِّقُها غُلوُّ سَماواتٍ وَلا مُغالاةُ أرضِيَّاتٍ وَلا غِمارُ زَمَنِيَّاتٍ.

أَمِن حَقِّ لبنانَ إستِصراخُ شَهادَةِ المُطلَقِ هَذِهِ؟ لبنانُ وَحدُهُ في مُجابَهَةِ المَصائِرَ الهَلوعَةِ مِن ذاتِها وَعَجزِها عَنِ المُجابَهَةِ. مِن دونِهِ، يودي الجُبنُ بالسَماواتِ والمَدَنِيَّاتِ.

تَحَدّي لبنانَ أن يَكونَ، وَيَغدو، أُمَّوِيَّاً. في ذي التَخَطِّي لِلحَياةِ قاطِبَةً، كُلُّ ما يَجعَلُكَ تُحِبُّ العالَمَ بِأسرِهِ.

سِرُّ لبنانَ، هو سِرُّ الخَلقِ وَمُجَدِّدُهُ... مُذ كانَ في فِكرِ الإِلَهِ، وَغَدا أُمَّوِيَّتَهُ لِلبَشَرِ. رُمَّةً.

*اللوحة المرفقة هي من إبداع ديفيد روبرتس لمرفأ صور عام 1887.