حربٌ متسلسِلَةٌ يعيشها الإنسانُ منذ بداياتِه. هدفُها فَصلُهُ عن خالقه. هي حربٌ أكثرُ فَتكًا مِن الحروب العسكريّة؛ وأكثرُ تطوُّرًا مِن الحروب الإلكترونيَّة؛ وأكثرُ دمارًا مِن أسلحَةِ الدمارِ الشامل؛ وأكثرُ خَطرًا مِن الحروبِ التي تُستعمَلُ فيها الغازاتُ السَّامة؛ وأكثرُ تشويهًا مِن الحروبِ الجرثوميَّة. لأنّها تفتُك بالروح، وهي في الحقيقة حربٌ لإلغاءِ الرّب يسوع المسيح مِن حياتنا.

إنَّ كلَّ ما رأيناه في العُقودِ الأخيرةِ حتى يومِنا هذا، إن كان مِن خلال بعض الحركاتِ الاجتماعيَّة والمَطلبِيَّة، أو مِن خلال الإعلامِ في مَيادين مختلفة، وصولًا إلى كثير مِن وسائل التواصُلِ الاجتماعيّ، له وَجهان: الظاهر والخَفي. أما الشِقّ الباطنيّ فيها فأخطَرُ بما لا يُقاس مِن الشِقّ العَلنيّ.

مِن جهةٍ أولى، لا يحصلُ انحرافٌ صُدفة! بل يأتي ضِمنَ سياقٍ مُتسلسِل، وتُصرَف عليه أموالًا طائلة. وما نراهُ مِن تشويهٍ للمفاهيمِ الأساسيَّة والإيمانيَّة: وجود الخالق، الفَرد وجِنسِه، الزواج، العائلة، الأب، الأم، الحريَّة، وغيرِها، ما هيَ إلّا مدخَل ومقدّمَة للمَخاطِر الآتية.

مِن جهةٍ أخرى، كلُّ ذلك يشكّلُ اختباراتٍ اجتماعيةً ونفسيَّة، لدراسةِ تجاوُب الناس، وردَّة فعلِهم، مِن أجل تأثيرٍ أقوى عليهم، خاصَّةً على الأولادِ والمراهِقين، بهدفِ إبعادهم عن هويّتهم السماويّة، والتلاعبِ بهم بسهولةٍ أكبر، ليصبحوا في النهايَة، عن معرفةٍ أو عن جَهل، ليسوا ملحدين فَحسب، بل كارهينَ للهِ وعابدين لإبليس!.

ولا يتعجَّبنَّ أحدٌ لو قلنا إنَّ علماءَ متخصّصينَ في علمِ النفسِ والاجتماع، وأطبّاءَ، وآخرين في مجال الإعلانِ والتسويق، يعملونَ جاهدينَ على تحقيقِ الهدف المنشود عن درايةٍ كاملةٍ وانحراف، ومنهم عن جهلٍ وانجراف. بالإضافة إلى مَن يهدفُ إلى الربحِ الماديّ، ضاربًا بعرضِ الحائط ما سوف ينتجُ عنها. إذ إنَّ الإنسانيّةَ قد أصبحَت عنده في خانَة عدمِ المبالاةِ والإحساس.

الأخطرُ مِن كلِّ ذلك هو أنَّ عمليَّةَ التشويه تتمُّ تحتَ عناوينَ مغايرَةٍ لمعانيها. فتكونُ الخدعَةُ أكبرُ والجَذبُ أقوى والضلالةُ أقبَح.

فبإسم الإنسانيّة تُضرَبُ الإنسانيَّة في عُمقها، وتَعظُمُ البهيميَّة؛ وباسمِ الحريَّةِ تقوى العبوديَّة وينمو الذلّ؛ وباسمِ الاحترامِ المتبادَل يزدادُ التسلُّطُ والَقمع؛ وباسم الانفتاحِ يُعاشُ الانغلاق؛ وباسم التطوّرِ يُمارَسُ التَخلُّفُ. كذبٌ ورياءٌ وغشٌّ وسقوطٌ وظلمَةٌ وضَياعٌ وانحرافٌ وتَيَهان.

وأكثرُ مِن ذلك ندخل كلَّ يوم، أكثر فأكثر في مجتمعِ السخافَة، ويُسطَّحُ الفكرُ، ويَكبرُ الفراغ.

لقد حذَّرنا الرّبُّ وكذلك الكتابُ المقدّس والآباءُ القديسون مِن كلِّ ما حصلَ ويحصلُ وسيحصل. وسيبقى هذا التحذير قائمًا إلى اليوم الأخير. فهو لا يهدفُ إلى القَمعِ والتخلّفِ، لا سَمَحَ الله! بل وُضِعَ مِن أجل الحريّة الحقيّقية البنّاءَة التي وُهبناها مِن الربّ، والتي وحدها تُحرّرُنا مِن تسلُّط الخطيئَة علينا. لأنَّه "حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ" (2 كو 3: 17).

فنحنُ مثلًا في عصرِ التواصل، والبشريّةُ تعاني مِن عدمِ التَواصل. لا بل إنَّنا نجدُ أنَّ الانطوائيَّة تَعظُمُ بشكل ملحوظ، والانغلاقَ يشتدُّ والقوقعَةَ تزداد. فكلُّها قد أصبحَت أدواءً تستوجِبُ المعالَجَة الطارئِة.

كذلك نرى على الانترنت الكَمَّ الهائِلَ مِن الحقائِق المزَيَّفَةِ تضربُ الإيمانَ وتَهدمُ الإنسانيّةَ وتشوِّهُ القِيَمَ وتَحُطُّ الأخلاق.

إنطلاقًا مِن المحافظة على أنفسنا، وعدمِ الوقوعِ في فخاخِ عدوِّ الإنسانِ الكثيرة، وُجِبَ علينا أن نضعَ نُصْبَ أعينِنا ما قاله بولس الرسول: "«كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي»، «وَلكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تَبْنِي" (1 كو 10: 23).

هنا يأتي دورُ التمييز الذي نكتسبُهُ مِن خلال علاقَتِنا بالرّب. كذلك يدعونا العِلم ألى ممارسة التفكير النقديّ Critical thinking، الإيجابيّ طبعًا. فمِن غير المسموح أن نقبلَ كلَّ شيءٍ يُقدَّم لنا دون أن نتفحَّصَه بدقَّةٍ. لا نقول إنَّ هذا الأمرَ سَهلٌ. إنَّما الربّ يعطي النعمةَ لطالبيها.

قد يبدو أنَّ الإيمانَ المسيحيَّ غريبٌ في وسطِ عالَمٍ مُضطرِب، حيثُ نسمعُ بوضوحٍ عن أعداد كبيرة مِن الدول والمجتمعات أنَّها تنادي بأمورٍ غريبةٍ ومنحرفة، وتحاولُ بشتّى الطُرُق أن تُقنِعَ الجميع بها، وتُدخلَها في حياتِنا اليوميّة لتصبحَ وكأنَّها هي الحقيقة، والطبيعيّة وليس العكس.

كما أنَّه غالبًا ما يجدُ المؤمنُ نفسَه في مجموعةٍ أقليَّة وسَط أكثريَّةٍ تسيرُ في اتّجاهٍ معاكِس لإيمانِه. وقد يَطرقُ الشكُّ بابَ قلبه، أو يجدُ نفسه ينزلقُ إلى عكس ما كان عليه.

يشرحُ العالِمُ الفرنسيُّ والطبيبُ النفسيُّ والباحِثُ Charles-Marie Gustave Le Bon (1841-1931) في كتابه الشهير: "سيكولوجيا الجماهير Psychologie des foules"، عن خَطرِ التأثيرِ الجماعيِّ على الفَردِ وذوبانه فيها، فيقول: "عندما تجتمعُ مجموعَةٌ مِن الناس وتندمِجُ لتكوينِ حَشدًا، يكون هناكَ "تأثيرٌ مغناطيسيٌّ منبعِثٌ مِن الحشود"، ينقلُ سلوكَ كلِّ فَردٍ حتّىيحكمَهُ عقلُ المجموعَة ". ويتابع : إنَّ "اللاوَعي الفرديّ" ينصهرُ ضمنَ "اللاوَعي الجماعِي".

يُعتبرُ Le Bon مِن أهَمِّ المراجِعِ المتخصِّصَة في عالَمِ الجماهير. إذ إنَّه قام بأبحاثِه في بلدانٍ عديدَة، استغرقَت سنينَ طويلَة. وقد نال، نتيجةً لذلك، جوائِزَ عالَمِيَّة عالِيَة جِدًّا. فهو مَن قال أيضًا: "إنَّ الفَردَ يُصبحُ وسطَ الجموعِ بِدائيًا وغَيرَ مَنطقيٍّ وعاطفيًّا للغايَة". ويَعتبرُ أنَّ هذا النَقصَ في ضبطِ النفسِ يَسمحُ للأفرادِ "بالاستسلامِ للغرائِز" وقَبولِ الحوافِزِ الغَريزيَّةِ لـ"اللاوَعي". وهنا تنشطُ "العَدوى" بشكلٍ مُلفِتٍ مِن شخصٍ إلى آخَر، دونَ أن نَنسى عمليَّة الإيحاءِ والتَرغيبِ والتحفيز. أمّا النقطَةُ المحوريَّةُ فَهيَ عدمُ الكَشفِ عن الذات L’anonymat، بمعنى رَفع المسؤوليَّة الشخصيَّة لتُصبَح "جَماعِيَّة".

يتبع كلُّ هذا أبطالًا محبوبينَ لدرجَة العُشقِ الأعمى Idole. وهنا يكمنُ اللعبُ على العواطِفِ وغَسلِ الأدمغَة. إنّها الديماغوجيّة[1]، أي "قيادة الشعوب"، والسيطرة على تفكيرِ الناسِ لدرجة سلبهِم المَنطِق بأساليبَ خادِعَة.

لقد شكَلَّت هذه الأمورُ التي وَصفها Le Bon حافزًا لكثيرٍ مِن القادَة في التاريخ، أمثال هِتلر وموسوليني ولينين وغيرهِم مِن رجالِ الإِعلام، الذين استعملوا محاذيرَه بطرقٍ معاكِسَة لمصلحَتِهم.

خلاصة، إنَّ هذا أخطر ما نعيشُه في عصرنا، وهذا ما يجعلُ المَرء يقعُ في فخِّ الحريَّة على الصعيدِ الفردِيّ، أو عَيشِ الديمقراطِيَّة الكاذبة على الصعيدِ الجَماعي. بينما في الواقع نصبحُ مُساقينَ كقطيعِ الخرفان. من هنا أتى قولُ Le Bon: "الفَردُ في الحَشدِ هو حَبَّةُ رملٍ بينَ حبّاتِ الرملِ الأُخرى، والتي تُحرِّكُها الرياحُ متى شاءَت".

نهاية، إنَّ الوَعيَ والدِرايَةَ قِنطارُ علاج، والجَهلَ غَباءٌ وسقوط. وواجبٌ علينا أن نَعي ماذا يدورُ حولَنا، ونتسلَّح بالروح القُدُس، لأنَّها "الحَرْبُ"!.

إلى الربِّ نطلُب.

[1]. La démagogie: du grec ancien demos, «le peuple», et ago «conduire».