بَعضُ الأوطانِ لا تاريخَ لَها. وَبَعضُها الآخَرُ، التاريخُ عَبَرَها عُبورَ الوَتَدِ. بالمُحالِ.

لِبَعضِها أن يَذكُرَها لِتَحسينِ قُبحِها. وَلِبَعضِها أن تَتَنازَلَ عَن قَلبِيَّاتِها لِتِتِقَبَّلَهُ.

الحَقَّ، أنَّ كُلَّ الأوطانِ لَيسَت كائِناتٍ تاريخانِيَّةً، أيّ أنَّ التاريخَ لَيسَ حِرفَتَها، وَلَو عانَدَت هَذا المُعطى بِواقِعِ جُغرافِيَّتِها أو واقِعِيَّةِ وَضعِيَّتِها. الجُغرافِيَةُ قَد تَصلُحُ والواقِعِيَّةُ قَد تَطلُحُ. والعَكسُ بالعَكسِ.

بَينَ الشَرِّ المُنبَثِقِ مِن فَردانِيَّةِ إنكِسارِ المُطلَقِ وَهَزيمَتِهِ الإنسانِيَّةِ، والخَيرِ المُتَعملِقِ كُلِيَّةً في المُطلَقِ غالِباً بالشُمولِيَّةِ الإنسانِيَّةَ، يَقِفُ التاريخُ لا سَنَداً مِن أسانيدَ القَومِيَّةِ كَما تَدَّعي القَومِيَّاتُ في تَحَجُّرِها المُنقَلِبِ ديكتاتورِيَّةً، بَل حَكَمَ الخُصوصِيَّةِ وَحاكِمَ الذَودِ عَنِ المَعنى. عَنِ الحَقيقَةِ.

لا عَقيدَةً هو لِيَستَثيرَ صِراعاتٍ، وَلا هو عِلَّةً لِيَستَأثِرَ بأنانِيّاتٍ. إذ لَيسَ بِسالِبٍ هو.

لِلتاريِخِ وَطَنٌ. وَهَذا حَقُّهُ. وَما إستَتَبَّ إلَّا لِأنَّ وَطَناً هو وَليدُهُ... وَليسَ العَكسُ.

في لبنانَ، التاريخُ يَتَجَوهَرُ أكثَرَ بَعدُ: بَينَ الأَينونَةِ والدَيمومَةِ، هو إتِّحادٌ بَينَ جَوهَرِيَّتَينِ: أرضٌ وَسَماءٌ. أَيَرودُ مُستَحيلاتٍ عَصِيَّةُ؟.

بَل في لبنانَ وَمِنهُ يَهيمُ بالجَمعِ حَدَّ التَماهي. هو تَواريخٌ جَلِيَّةٌ في الدَهرانِيِّ المُتَحَرِّكِ، كَما في القَناعَةِ المَقدودَةِ مِنَ الرَونَقِ الثابِتِ. تَواريخٌ مِن شَراراتٍ مُتلاصِقَةٍ، مُتَرابِطَةٍ، مُتَناغِمَةٍ أو مُتنافِرَةٍ. المُهِمُّ أنَّها مِن قَصِيِّ المَدَى.

هو مِن لبنانَ وَفيهِ، لَيسَ مَواضيَ مُجَغرَفَةً بَل صيغَةً هي الأصفى مَصيرِيَّةً.

أهو في ما هو تَواريخٌ في تاريخٍ، لِلبنانَ فَحَسبَ؟

لا! مُذ كانَ لبنانُ في فِكرِ اللهِ وَتَكوَّنَ مِنهُ وَلَهُ، كَما في يَراعِهِ، أرادَ التاريخَ دَيمومَةً تَتَيَقَّنُ بَل أسبَقِيَّةً جامِعَةً. أشرَسُ نِضالاتِها بِوَجهِ عُبودِيَّاتِ التَجهيلِ، وإستِعباداتِ التَرهيبِ، وَشؤمِ مَحاكِمَ التَفتيشِ المُستَتِرَةِ بالدينِ حَدساً وَجَزاءً.

أجَل! مُذ تَكَوَّنَ لبنانُ في فِكرِ الإنسانِ وَكانَ لَهُ وَمِنهُ، كَما في وجودِيَّاتِهِ، صَنَعَ تواريخَهُ على مِحَكِّ الشَرقِ والغَربِ، وَمَن فيهِما. هي حَصيلَةُ إختِماراتٍ مِن داخِلٍ يَسيرٍ، والأصَحُّ، بِتَوازٍ مَعَ تَحَدِّياتِ مِن خارِجِ. الوَعيُ أوَّلِيَّاتُها، والضُعفُ موقِعُها في نُزوعِ الشَوارِعَ.

زَخَمُ المَسالِكَ

في هَذِهِ المَسالِكَ، إرتِواءٌ صَخبٌ، نَقيضُ عَقائِدَ القَومِيَّاتِ وإيديولوجِيَّاتِها.

أهو مِن إيمانٍ حَسبُهُ النورُ الدافِقُ مِنَ الحُرِيَّةِ؟ قُلّ: هو الرُسوخُ في زَخَمٍ يَرفَعُ الحُجُبَ عن جَبلَةِ الهُوِيَّةِ بِتِلازُمِ العَقلِ والحَرفِ، وَكِلاهُما مِن شَواطِىءَ لبنانَ الى العالَمِ، غَرباً وَشرقاً. فيهِ وَمِنهُ وَمَعَهُ، تَجَوهَرَ "اللوغوسُ" عَقلاً مَكتوباً، لا تَناقُضَ فيهِ بَينَ مَسالِكِهِ وَزَخمِهِ. وَبِهِ، يَتَوَجدَنُ التاريخُ-التَواريخُ لا مُجَرَّدَ شاهِدَ وجودٍ بَل صانِعَ جَواهِرَ-إطلالاتٍ موَحِّدَةٍ لِحَضاراتٍ.

أجَل! مِن دونِ لبنانَ، لَيسَت الحَضاراتُ مُتَوَّحِدَةً على الحَياةِ.

لا! الحَضاراتُ لا تَبلُغُ أعلى مَدارِكَ الإدراكِ، إلّا بِلبنانَ.

مِنَ "المُعينِ في دِراسَةِ القَضايا الجَلِيَّةِ" لِ بورفيروسَ الصورِيِّ، الى "الجَمعِ بَينَ اللاهوتِيِّ والفَلسَفَةِ العَدَدِيَّةِ" لِ يَمبليخوسَ العَيطورِيِّ مِن خَلقيسَ-مَجدِلِ عَنجَرَ، إطارُ قياسٍ يُجَوهِرُ الوجودَ هذا.

على هذا المِحَكِّ-التَخطيطِ، لبنانُ التَواريخُ-التاريخُ وجوداتُ أغيارٍ تَنصُبُ قِمَمَ الإنسانِيَّةِ وَتُكَثِّفُها، لا ضُروباً فَردانِيَّةً تُغالي في إستِرهانِ الوجودِ وَشَرعَنَةِ ضَربِهِ فإستِجرارِ السَيطَرَةِ عَلَيهِ.

قُلتُ: لبنانُ التواريخُ؟ لِيَكُن بِهِ الجَزمُ بِمَسؤولِيَّةِ الطَليعِيَّةِ في كَونِهِ أُمَّوِيَّاً لا قَومِيَّةً تُعايِشُ وجوداتٍ تَصطَنِعُ الصِدقَ وَتُسَوِّقُ التَقليدَ.

لَصيقُهُ: الإنسانُ الإنسانِيُّ. ذاكَ الذي، لِكُلِّ زَمانٍ وَمَكانٍ، يُرَسِّخُ جُذورَهُ لا في إزدِواجِيَّاتِ الأسيادِ والمُستَعبَدينَ، بَل في هَديرِ الحَقيقَةِ الطالِعَةِ حُرِيَّةً مِن سَماءٍ لِأرضٍ وَمِن أرضٍ لِسَماءٍ.

*الصورة المرفقة هي نقش لمرفأ صور، بواسطة أدلارد وبارتليت يعود تاريخها الى العام 1837.