"حُرِیَّةُ الإعِتقادِ مُطلَقَةٌ، والدَولَةُ بِتأدِیَتِها فُروضَ الإجلالِ لِلهِ تَعالى تَحتَرِمُ جَمیعَ الأدیانِ والمَذاهِبَ وَتَكفَلُ حُرِّیَةَ إقامَةِ الشَعائِرَ الدینِیَّةِ". هَذِهِ المادَّةُ التاسِعَةُ مِنَ الدُستورِ الُلبنانِيِّ الصادِرِ في 23 أيَّارِ 1926، ذُروَةُ إختِبارٍ نَمّاهُ لبنانُ مُذ ولِدَ وَطَناً، وَقَبلَ أن يَغدوَ دَولَةً.

حينَ كانَتِ الأُوتوقراطِيَّاتُ المُجاوِرَةُ مُلغِيَةً لِلهِ، وَمُنَصِّبَةُ نَفسَها مَكانَهُ، بِقُوَّتِها التأويلِيَّةِ، كانَ هو مُعلِياً الإيمانَ قَضِيَّةً تأوينِيَّةً. هي بِلا مَكانَةٍ فيها لِلفَردِ تَطاحَنَت تيوقراطِيَّات، وَتَبَعثَرَت، وَهو بَقيَ.

ها اليَهودِيَّةُ تَعالَت دينَ "شَعبِ اللهِ المُختارِ"، فَكانَت لا مَكانَ فيها لِغَيرِ اليَهوِد. وَمَرَّةً تَخادَعَ زُعَماؤها وَزَعاماتِ روما، لِخَواتيمَ نِهائِيَّةٍ: الحُكمُ على المَسيحِ بالمَوتِ قَصدَ إنهائِهِ: "لا مَلِكَ عَلَينا إلَّا قَيصَرَ"! (يوحَنَّا 19/15).

وها الإِسلامُ باتَ ديناً لِدُوَلٍ لا تَهاونَ في تَحَوُّلِهِ الى قَومِيَّةٍ، مِن بَواعِثِها الى مَناهِلَ ميعادِها.

وَقَبلُ، كانَ مُلوكُ أشورَ وَفَراعِنَةُ مِصرَ وَشاهِنشاهُ الفُرسَ وأباطِرَةُ روما وأباطيلُ الإغريقَ قَد تألَّهوا، وَغَدوا الدينَ والفَصلَ في سُلطانِ الحَياةِ والمَوتِ على رَعايا مُستَعبَدَةٍ لا شُعوبَ مُستَنهَضَةً، على مُستَملَكاتٍ لا أوطانَ. مِحوَرِيَّتُهُم ميراثٌ، صِراعُ التأبيدِ صُلبُهُ. أيُنسى صِراعُ روما والفُرسَ الذي إمتَدَّ مُنذُ ما قَبلَ قَبلَ المَسيحِ الى ما بَعدَ بَعدَ مُحَمَّدَ... مِن دونِ نَصرٍ، لِيَعودَ فَيَتأجَّجَ في عَصرِ الذَكاءِ الإصطِناعيِّ المُتَوالِدِ مِنَ المالِ المَدعومِ بِسَلبِ الإلحادِ الدِعائِيِّ؟.

عِندَ لبنانَ أنَّهُ أعلى الوجودَ مِنَ الشَعبِ وإلَيهِ. كَيفَ لا، وإمرَأةٌ مِنهُ جاهَرَت بإيمانِها وَتَحَدَّت مَن بِجَوهَرِهِ هو اللهُ. "لَم أُرسَل إلَّا الى الخِرافِ الضالَّةِ مِن بَيتِ إسرائِيلَ... وَلا يُحسَنُ أن يؤخَذَ خُبزُ البَنينَ فَيُلقى إلى صِغارِ الكِلابِ" (متَّى 15/24.26)، قالَ لَها. أجابَتهُ: "نَعَم، يا رَبُّ! فَصِغارُ الكِلابِ نَفسُها تَأكُلُ مِنَ الفُتاتِ الذي يَتَساقَطُ عَن مَوائِدَ أصحابِها" (متَّى 15/27)، إعتَرَفَت بِهِ رَبَّاً. كَرَّسَتهُ لِلجَميعِ. كَسَرَت قرارَهُ. "ما أعظَمَ إيمانَكِ أيَّتُها المَرأةُ، فَليَكُن لَكِ ما تُريدينَ"(متَّى 15/28)، أعلَنَ.

هيَ أُمَمِيَّةُ الإيمانِ تَجبَهُ عُنصُرِيَّةَ الدينِ. هوَذا لبنانُ. قَضِيَّتُهُ حَضارِيَّةٌ في الصَميمِ. وَلا صَميمَ مِن دونِها. قَضِيَّةٌ لا تَتَسايَفُ مَعَ الأديانِ قَصدَ إلغائِها لإِعلاءِ فَردانِيَّةِ مُعتَقَدٍ، وَلا تَتَزالَفُ في دَمجِ مُعتَقَدٍ بِمُعتَقَدٍ لِأجلِ دينٍ إنصِهارِيٍّ. فَرادَتُها، أنَّها مِنَ الحَضيضِ أرتِقاؤها الى الِلقاءِ بَينَ الإنسانِيَّةِ والأُلوهَةِ. بَينَ الواقِعِ الوجودِيِّ والواقِعِ الجَوهَرِيِّ.

مِن دونِها، عَدَمِيَّاتٌ تُناطِحُ عَدَمِيَّاتٍ في كَينونِيَّاتٍ مُتَلاغِيَةٍ بالدَمِّ.

بِها، يُفهَمُ فَيضُ الإِجلالِ لِلأُلوهَةِ بِتَكافُلِ حُرِّیَةِ الشَعائِرَ الدینِیَّةِ. هو فَيضٌ لَيسَ إلَّا لِلبنانَ أن يَكونَهُ وَيُعطيهِ حَقَّ صَدارَةٍ لِلعالَمِ، شَرقاً وَغَرباً. حَقَّ أُمَّوِيَّةٍ حُرَّةٍ. والحُرِّيَةُ حُرِّياتٌ لا قَطعاً وَحدانِيَّاً.

التَأوينُ تَجَلٍّ

قُلتُ قَضِيَّةٌ تأوينِيَّةٌ، أيّ إنبِعاثٌ حَيٌّ في الآنِيَّةِ، بِوَجهِ مُغتَصَباتِ التَأويلِيَّاتِ الدينو-سِياسو-إجتِماعِيَّةِ وَمَوانِعِها التَمَوضُعِيَّةِ؟ أَلَيسَ دِرايَة إمتِدادٍ مُذ كَرَّسَ إميليوسُ بابينيانوسُ وَدوميثيوسُ أولبيانوسُ، في قَلبِ روما، المُساواةَ بَينَ البَشَرِ على قاعِدَةِ أنَّ الشَرائِعَ الدُنيَوِيَّةَ قِوامُها الإتِّحادُ بَينَ العُرفِ الإلَهيِّ والمَنطِقِ الإنسانِيِّ؟ وَمُذ أعلى ذَلِكَ في بَلاغَةِ أثينا أوريانوسُ الصوريُّ وَليبانوسُ؟.

أجَل! فَيضُ لبنانَ هَذا لا يُطاولُ الإيمانَ حَصراً بَلِ المَعرِفَةَ رُمَّةً لِلتَدليلِ والتَبيِّينِ. هو فَيضٌ جَعَلَ الجَوهَرَ المُتَجَسِّدَ يَتَزَمَّنُ وَيَتَمَكَّنُ.

بَينَ سَمائِهِ وَأرضِ البَشَرِ تَجاذُبٌ وَتَصافُحٌ وَتَعانُقٌ: ثالوثِيَّةُ تَجَلٍّ تَتَزايَدُ خَلقاً بِوَجهِ تَدَيُّنِ يأسِ التَطَرُّفِ، وَمُغالاةِ الإلحادِ، وَقُصورِ تَعميرِيَّاتِ اللامُبالاةِ.

*اللوحة المرافقة هي لشاطئ صيدا يعود تاريخها الى العام 1887