أن يَكونَ لبنانُ تَنامى صَخراً فَوقَ صَخرٍ، صَخراً نَدَّاً لِصَخرٍ، في تَجاورِ صَحارى وَبَحرِ، هَذِهَ فَرادَةُ إبتِداعٍ مِنَ الخالِقِ، وَلَيسَت مٌجَرَّدَ إحساسٍ فِطريٍّ لإندِهاشٍ، وَلا فِعلَ وِجدانٍ فَحَسبَ بَل أكثَرَ. هي فَرادَةٌ مَحَضَت إنسانَهُ دَفقَ ثالوثِيَّةَ جَمالٍ وَحَقٍّ وَخَيرٍ.

أيَتَبَدَّى واحِدٌ مِنَ الثَلاثَةِ على الآخَرَينِ؟ بَل لا يَتَيَّسَرُ فَهمُ الثَلاثَةِ إلَّا مَعاً، في نَصبَةٍ تُعانِقُ الذُرى بَينَ المَقلَعِ والوَعرِ.

هو الصَخرُ عَينُ عَينِهِ، لا يُبتَدَىءُ إلَّا بِهِ، وَلَيسَ إلَّا بِهِ النُهى. في الفَوقِ وَفي النَدِّ، لا تَجزِئَةَ فيهِ وَلا قِسمَةَ، لا إنعِزالَ ولا تَشابُكَ. مُتمَكِّنٌ في المَساحَةِ وهي أرضٌ، كَما في الزَمَنِ وَهوَ كَمٌّ. في الأَينِ كَما في الآنَ. هو سابِكٌ عُصارُةً، مِنهُ وإلَيهِ وَفيهِ.

أيَكونُ لبنانُ بِذَلِكَ صَمَدٌ؟ هو، مِنَ الصَخرِ، أحَد. لا آخَرَ لَهُ، وَهوَ غَيرُ مُرَكَّبٍ أذ ألمُرَكَّبُ يَفتَقِرُ الى أجزائِهِ، وَهوَ إلَيهِم أبَداً في إفتِقادٍ. غِناهُ، أنَّهُ لَيسَ بِطارِىءٍ كَحادِثٍ يَبَحَثُ عن مَقولاتِ جُزئِيَّاتٍ. إنَّما أبَدِيَّتُهُ يِستَمِدُّها مِن أزَلِيَّتِهِ، والعَكسُ بالعَكسِ. فلا نَقصَ فيهِ، وَلا حاجَةَ لِهُ، بِسبَبِ نَقصٍ فيهِ، لأَمرٍ آخَرَ يُقيمُهُ أو يُكَمِّلُهُ أو يولِّيهِ عَلَيهِ لِيُدَبِّرَهُ.

أجَل! هو بِذَلِكَ لبنانُ الصَّمَدُ. لبنانُ الذي كانَ في فِكرِ اللهِ، مُذ كانَ. وما سِوى اللهِ إمدادَهُ بالحَياةِ. بالخَلقِ الخَلقِ. في الإبتِداءِ كَذَلِكَ في الإستِمرارِ. وَهذا كِفايِتُهُ لَيسَت بِمَنطِقِ المَرئِيَّاتِ والأُوَيقاتِ. هَذا لا يُدرَكُ بُرهانُهُ ما فَوقَ المَنظورِ، إلَّا كَما وَرَدَ في الآيَةِ 5 مِن سورَةِ السَجدَةِ، إذ قالَ تَعالى: "يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ".

مَن هَذا الإنبِثاقِ الطَبيعيِّ، يَتَمَظهَرُ لبنانُ واجِبَ الوجودِ، لا مِن عِندِيَّاتِهِ فَحَسبَ، بَل مِنَ اللهِ الذي مَسَحَهُ بِفِعلٍ إراديٍّ كُلِيٍّ مِنهُ. مِنَ اللهِ رابِطِ أرضَ لبنانَ بِسَمائِهِ هو، والجاعِلِ مِنهُ تالياً قَضِيَّةً تُكَلمِنُ الغِبطَةَ العُلوِيَّةَ.

أجِل! هو لبنانُ الصَخرُ الصَخرُ قائِمٌ بالتَدبيرِ مِن السَماءِ الى الأرضِ. هو، في ما هو، تَجويدٌ لِمَواجيدَ في الواقِعِ يَستَزيدها مُحاكاةً. هو تَعبيرٌ عَن قَيمومِيَّةِ اللهِ عَلَيهِ وَما فيهِ، وَعَن سُلطانِهِ وَهوَ كُلُّ المِعنى. قُلّ: هو لبنانُ خَتمُ البَقاءِ على مَصاحِفَ الزَوالِ.

أجَل! لبنانُ واجِبُ الوجودِ لِلخَيرِ، وَلِلحَقِّ، وَلِلجَمالِ... كَما في السَماءِ كَذَلِكَ على الأرضِ.

هَديرُ الداخِلِ

مِن هَذا الداخِلِ الصَّمَدِ هَديرُ قُوَّةٍ، ناموسُها العَينيُّ يَتَفَعَّلُ في كُلِّ حاضِرٍ، والحاضِرُ حاضِرٌ أبَداً. هي قُوَّةٌ لا تَتَرَمَّد مَهما رامَ المُحتَكُّونَ بِها، مِن صَحارى وَبَحرٍ، سُقوطَها وِتَبَعثُرَها أو تَهافَتوا على إبتِلاعِها. وَهو حاضِرُها هادِرٌ بِها مِن سَديمِ الغَيبِ الى نورانِيَّةِ الَلحظَةِ.

قُلّ: غايَةُ حاضِرِها أن يَدفَعَ صَخرُها الصَخرُ الى النُهوضِ بالأَرضِ نَحوَ السَماءِ لِكَيما تَتَأرَّضَ السَماءُ بالمُجَرَّدِ الذي فيها. صَخرُ السَماءِ يُمَعِّنُ. وَصَخرُ لبنانَ يُمَظهِر. وَكِلاهُما "أبوابُ الجَحيمِ لا تَقوى عَلَيهِما"... طالَما إندِفاعُ القُوَّةِ مِن داخِلِها. هي قُوَّةٌ تُحِقُّ، ولا تُبطَلُ، فَيَهدُرُ الخَيرُ مَخاضَ الجَمالِ، والجَمالُ واقِعيَّةَ الخَيرِ.

في هَذا الهَديرِ الجامِعِ، تَحقيقٌ أُمَّوِيٌّ، لبنانُ-الأرضُ، مَنبِتُهُ وَتَساميهِ. مُنتَهاهُ. في إقدامِهِ حِكمَةٌ، وَفي حِكمَتِهِ مُلاحَقَةُ الجَلالِ... الى أعماقِ الأعماقِ، حَيثُ إستِقامَةُ البَقاءِ.

لبنانُ صَخرُ الصَخرِ: العالَمُ عابِرٌ مِن خِلالِهِ... وَهو البَقاءُ.

*يعود تاريخ الصورة المرافقة للنص لمنطقة الباروك الى عام 1837.