ارتبط ​الإقتصاد اللبناني​ منذ بدء الأزمة بسوق "الكاش"، خصوصاً ان ​المصارف​ امتنعت عن اعطاء الاموال لمستحقيها بسبب عجزها عن تأمين متطلباتهم من ودائع وضعوها في تلك المصارف.

كانت معظم الودائع تحوّلت من البنوك الخاصة الى المصرف المركزي، لقاء فوائد عالية، الى الصرف على حاجات الدولة، طيلة سنين مضت. كانت المؤسّسات الحكومية تبتلع الودائع، كقروض سلّفتها المصارف للدولة من ضمن عملية تمويلها، لكن لبنان بات عاجزاً بعدها عن رد القروض، اي اموال المودعين، بغياب ايرادات وازنة المُفترض ان تحققها الدولة، الى حين تأمين بدائل تنطلق من تحصيل ايرادات غير تقليدية للدولة، وهو ما لم يتوافر لغاية الان.

ويمكن تفسير كلام حاكم ​مصرف لبنان​ بالإنابة ​وسيم منصوري​ عن أنّ حل ازمة الودائع ليس امراً مستحيلاً، انطلاقاً من وجود اكثر من سبعة مليارات دولار حالياً، اضافة الى سعر الذهب الذي يتخطى مبلغ ١٨ مليار دولار بكثير بسبب ندرة قطعه، عدا عن ان الدولة اللبنانية تمتلك:

- مؤسسات رابحة، مثل ​كازينو لبنان​، ​طيران الشرق الاوسط​، ​مرفأ بيروت​، وغيرهم من المؤسسات القادرة على تأمين اموال للخزينة تفعيلاً او بيعاً او شراكة مع القطاع الخاص.

- املاك بحرية، يمكن ان تُدخل للخزينة اموالاً طائلة.

- استثمارات مُقترحة، تتطلب خطة اقتصادية ناجحة.

- ضبط التهرب الجمركي، والتهرب الضرائبي الذي يقوم به تجّار مصدّرون ومستوردون، او صناعيون يقبضون اسعار منتجاتهم في مصارف خارج لبنان ومن دون ادخالها في حساباتهم داخل البلد.

كما أنّ عناصر إضافية، مثلاً في حال تبين وجود مخزون من الغاز في البحر، أن تستطيع الدفع بإتجاه ايجاد خطة تُنصف المودعين بإعادة اموالهم، وتعطي للكبار منهم اسهماً في مؤسسات مصرفية وعامة.

لذا، فإن كلام منصوري واقعي، شرط الإلتزام بإصلاحات توقف الهدر، وتحدّ من الانهيارات المالية.

يُسجل لحاكم المصرف بالإنابة أنه اوقف تمويل الدولة، وهو يعني عدم التفريط بما تبقى من ودائع، واستطاع ان يقول للمسؤولين في جميع السلطات: كفى.

لو كان الحاكم السابق ​رياض سلامة​ فعل ما اقدم عليه منصوري حالياً، لكان البلد تجنّب هدر اموال المودعين، واضطرت الحكومات السابقة وقتها ان تجد بدائل لتمويل المؤسسات وحاجات الدولة، مما يعني ان الحاكم بالإنابة ارسى نهجاً مختلفاً سينتهجه من يأتي بعده.

وأتت حالياً رغبة منصوري بإطلاق منصة "بلومبيرغ" لتحقيق اهداف عدّة:

-أولاً، الحد من فاعلية سوق "الكاش"، الذي يمكن ان يعرض لبنان الى الخروج من المسار المالي العالمي، وقد وصلت تنبيهات في هذا الشأن خوفاً من عمليات تبييض محتملة تستخدم سوق "الكاش"، علماً ان منصوري ضبط حركة بيع وشراء الدولار التي يقوم بها المصرف لزوم تأمين الحاجيات، وطبّق منذ وصوله اجراءات تقضي بمعرفة مصدر الاموال وهوية مالكي الدولار ومسار العمليات قبل وصولها لصالح المصرف.

-ثانياً، المساهمة في ضبط حركة التصدير والاستيراد بمنع التفلّت الضرائبي لكبار التجّار الذين استندوا الى "الكاش" للتهرب من دفع ضرائب للدولة، بينما تأتي المنصة لتسجيل العمليات ومعرفة حركة الاموال للتجار.

-منع المضاربات الوهمية والحقيقية التي كانت تجري في المرحلة السابقة وتؤدي الى تضرّر العملة الوطنية.

لكن كل الاجراءات التي ينتهجها حاكم المصرف بالإنابة لن تحقق اهدافها الفعلية بصورة متكاملة، في حال عدم مواكبتها من قبل الحكومة والمجلس النيابي، تشريعاً وتنفيذاً للاصلاحات المطلوبة.

واذا كان المودعون يرفعون الاصوات لنيل حقوقهم المالية، فإن اجراءات المصرف المركزي حالياً عبر انتهاج الشفافية، تضع الامور في مسارها الطبيعي، وتدفع القوى السياسية لتحمّل مسؤولياتها في اصلاحات تشكّل مقدمة لترجمة حقيقة ان اعادة الودائع ليست مستحيلة.