للمرة الاولى منذ زمن بعيد، وربما منذ الانتداب الفرنسي، يجد الفرنسيون انفسهم وكأنّهم خارج نادي الدول العظمى بسبب السياسة التي اعتمدوها من جهة، والتطورات المتسارعة التي يشهدها العالم من جهة اخرى. تسقط الاوراق السياسية من اليد الفرنسية كسقوط اوراق الشجر في موسم الخريف، وها هي باريس اليوم تشهد انسياب دول القارة الافريقية التي كان لها نفوذ اساسي فيها، الى خارج حدود سلطتها، كما ان دورها الريادي في اوروبا بات في خطر بعد ان اصبحت في الصف الثاني على اثر الحرب الدائرة بين روسيا واوكرانيا والتي اضعفت كلمتها ودورها في القارة العجوز بشكل لم يسبق له مثيل.

اما في الشرق الاوسط، فحدث ولا حرج، فقد اصبحت فرنسا وكأنها غريق في مياه البحر المتوسط، وهي تتمسك حالياً بلبنان على انه طوق النجاة الوحيد الباقي، من هنا يمكن فهم الاصرار الفرنسي على انجاح مساعيها لوضع لبنان على سكة التعافي، والابقاء بالتالي على مصالحها ونفوذها فيه كموطئ قدم لاستعادة نفوذها ودورها كدولة عظمى. يعتقد الكثيرون ان الانفتاح الفرنسي على جميع اللاعبين المحليين (وبالاخص على الثنائي الشيعي حزب الله وامل) هو بسبب القلق على لبنان، لكن الحقيقة هي ان هذا الانفتاح يعود الى استماتة الفرنسيين في البقاء في المقعد الرئيسي، وما تنازلاتهم في هذا المجال سوى تعبير عن مدى استعدادهم للذهاب بعيداً كي يصلوا الى هدفهم، لكن العبرة تبقى في قدرتهم على استمالة اللاعبين المؤثرين الخارجيين، وهو امر ليس في متناول اليد بعد. وحين يقول الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان ان الوضع في لبنان تحول الى تهديد وجودي، فهو يغمز بذلك من بوابة فرنسا التي بات وضعها في المنطقة في خانة التهديد الوجودي ايضاً. قد يكون من المفيد ربط المصير اللبناني بالفرنسي، لان حسناته كبيرة، ففرنسا لا تزال قوة كبيرة وتحظى باحترام وتتمتع بقدرات اكبر بكثير من لبنان، ولكن وضعها اليوم للاسف يعاني من ضعف لا يستفيد منه اللبنانيون.

يكابر الافرقاء على الساحة المحلية في التجاوب مع المبادرة الفرنسية، ولا يتجاوب معها الا من تصب في مصلحته، لعلمهم المسبق ان الفرنسيين يحتاجون اليهم ولم يعد بامكانهم التحدث معهم بلهجة التهديد والوعيد، واصبح من السهل على لاعبين محليين الوقوف في وجه فرنسا وكيل الاتهامات لادارتها، ورفض التجاوب مع رغباتها ومبادراتها، وانتقاد تصرفات مسؤوليها، وهي امور لم يكن يتجرأ احد على القيام بها سابقاً، او حتى التفكير بها. ويرى الفرنسيون انهم بحاجة الى تقديم التنازلات والمساومة مع الدول الخارجية من اجل البقاء في موقع القوة في اللعبة اللبنانية، وهذا هو سر تحركها البلوماسي الناشط جداً، ومد الايدي للجميع والتخفيف من اللهجة التصعيدية تجاه ايران، وتحمّل ما لم يكن من المقبول تحمله سابقاً، وهذا هو جوهر تحرك لودريان حالياً.

يأمل الفرنسيون خيراً بتحركهم، ويعلّق بعض اللبنانيين املاً على هذا التحرك والرهان على الاصرار الفرنسي على النجاح مهما كلف الامر، بغض النظر عن الاسم الرئاسي المطروح، وعن الشروط المقدمة من هنا وهناك، فالنتيجة هي التي تهم وستكون كافية حتماً لاعادة البريق الى الوضع الفرنسي واستعادة الهالة في المنطقة كانطلاقة مهمة للملمة الاجزاء التي تكسرت من صورتها.

من هنا، يؤكد الكثيرون ان المبادرة الفرنسية ستنجح وان التراجع او الاستسلام ليس خياراً بالنسبة الى باريس، ولكن يبقى عامل الوقت هو الحاسم، ومرده الى العمل الفرنسي الدؤوب على جمع اكبر عدد ممكن من الموافقات الدولية، والتوقعات تشير الى ان الحياة ستعود الى قصر بعبدا قبل حلول عيد الميلاد المجيد.