أن يحمل الإنسان صليبًا، هذا يعني أنَّه شهيد. قد يكون حقَّق هذه الشهادة، وقد يكون على طريق تحقيقها. عدا ذلك، هو زينة ومفاخرة وتباهٍ واستعراض.

وعندما نقول شهادة، نقول أيضًا استشهادًا، أي موتًا عن الذات ليحيا الربُّ فينا.

فالفرق كبير بين أن نولد مسيحيِّين بحسب انتمائنا العائليِّ، وبين أن نأتي إلى المصلوب تاركين خلفنا كلَّ ما ليس له علاقة بالمصلوب. هنا تحديدًا يأتي فعل الرفع، إذ الانضمام إلى الربِّ المرفوع على الصليب، معناه الارتفاع عن هذه الدنيا لندخل الملكوت.

هذا ما خاطب به يسوع اليهود قائلًا: «متى رَفعتُم ابنَ الإنسان، فحينئذٍ تفهمون أنِّي أنا هو» (يو 8: 28).

ومن له أذنان للسمع فليسمع، ومَن له أذنان للسمع فليسمع، ومن له بصيرة للبصيرة فليبصر. فالفهم هنا هو المعرفة والمعرفة تمرُّ أوَّلًا بالاتِّضاع وإفراغ الذات من كلِّ تكبُّر وتسلُّط وأنانيَّة وحبِّ الذات. فالصليب هو انفتاح على الله عموديًّا، وعلى الآخرين أفقيًّا.

لقب ابن الإنسان عند اليهود له معنًى كبير جدًا، فهو يشير إلى المسيح المنتظَر والمخلِّص (دانيال 7: 14)، قد أعطاه يسوع ملئه الخلاصيَّ، وبُعده الكامل.

في اللاهوت، الرفع والصلب والمجد واحد. القدِّيس يوحنَّا الإنجيليُّ يُبدع في هذا الترابط. فنقرأ أنَّه قبل الفصح بستَّة أيَّام، وتحديدًا بعد إقامة الربِّ للعازر، قال يسوع: «قد أتت الساعة ليتمجَّد ابن الإنسان» (يو 12: 23). وأكمل أنَّ حبَّة الحنطة يجب أن تموت لتأتي بثمر كثير ولا تبقى وحدها (يو 12: 24). وصلبُ يسوع وغلبتُه على الموت، أطلقا شرارة الجماعة بجذب الجميع إلى الربِّ. هذا تمامًا ما قاله عن موته بالجسد على الصليب[1].

هذه الثلاثيَّة، الرفع والصلب والمجد، لا يمكن أن تتحقَّق إن لم يهلك الإنسان كلَّ سعي للمجد الأرضيِّ المفعم بالترابيَّات وليس بالإلهيَّات.

طلب التراب هو السكنى فيه، ولا رفع إلَّا بصلب الأهواء المميتة، عندها نتذوَّق مجد الله. الربُّ نزل ليرفعنا، وليقول لنا: «لا تفهموا خطأ نكران الذات»، لأنَّ «مَن يُبغضُ نفسه في هذا العالم يَحفظُها إلى حياة أبديَّة». (يو 12: 25). فنكران الذات هو رفض العيش في الظلمة المهلكة وتحت نير الخطيئة وظلمتها.

هنا نرجع إلى الشهادة والاستشهاد، والموت عن الذات. قد تكون شهادة بيضاء بعيش الكلمة الإلهيَّة وعدم المساومة عليها، وقد تكون شهادة حمراء بالاستشهاد من أجل الإنجيل، وعدم نكران يسوع.

وهنا يأتي اكتشاف معنى قيمة الحياة، وهنا أيضًا نكون فعلًا نحبُّ أنفسنا بالمعنى المستقيم للحبِّ. وهنا نرتفع في المجد حاملين صليبنا، ونتبع مخلِّصنا ومصدر سلامنا، وتعزيتنا، وفرحنا الحقيقيِّ.

لهذا نقولها بافتخار المحبِّين: صليبنا فخرنا، وشهادة حياتنا.

قد يبدو للبعض بابًا ضيِّقًا، ولكنَّ من يدخله يجده أرحب من الكون كلِّه. ولكنَّ هذا يبدأ أوَّلًا بالتخلِّي عن كلِّ ما هو زائف من أجل اقتبال الحقِّ الَّذي هو الربُّ. الشجعان هم الَّذين يفعلون ذلك، لأنَّ حمل الصليب قوَّة وصلابة.

فالصليب وسام تُفتح أمامه أبواب السموات. هذا ما تُظهره الأيقونة مع القدِّيسين والقدِّيسات الَّذين نراهم يحملون الصليب في أيديهم. هذا معناه أنَّ حامله شهيد من أجل الربِّ. وفي كلِّ مرَّة ننظر فيها إلى أيقونته يقول لنا جهارة، مردِّدًا آية الرسول بولس الشهيرة: «وأمَّا من جهتي، فحاشا لي أن أفتخر إلَّا بصليب ربِّنا يسوع المسيح، الَّذي به قد صُلِبَ العالم لي وأنا للعالم» (غل 6: 14).

هؤلاء الشهداء أيقنوا أنَّ الصليب حياة، فكتبوا بدمائهم الزكيَّة، ما كتبه القدِّيس غريغوريوس اللاهوتيُّ، وترجمه حياةً وأفعالًا، ومسلكًا وسيرة: «عشقي مصلوب، عشقي قائم».

حمَلة الصليب في كنيستنا كثُر، وهم يشكِّلون قدوة ومثالًا حيًّا لعيش كلمة الله، وعدم التخلِّي عنها مهما كانت الظروف، وعدم المراوغة بها، بل يكون كلامنا كلامًا صحيحًا وصادقًا، قوامه نعم نعم، ولا ولا (متى 37:5).

فنعم لاتِّباع يسوع والعمل بوصاياه، ولا للازدواجيَّة من أجل المصلحة الشخصيَّة.

نعم لعيش الكلمة الإلهيّة، ولا لجعلها أقوالًا دون أفعال.

نعم للإنجيل، ولا لعكسه.

نعم للصدق، ولا للكذب.

نعم للاستقامة، ولا للهرطقة.

نعم للإيمان المُسلَّم لنا من الربّ القدّوسِ، ولا للتلاعب فيه.

نعم لنكون عاشقين للربِّ، ولا للفتور.

نعم لنيل الحياة الأبديَّة، ولا للحياة الدهريَّة.

ها أمامنا في الرابع والعشرين من شهر أيلول، تذكار لقامتَين في الكنيسة: القدِّيسة تقلا الأولى في الشهيدات والمعادلة للرسل، والقدِّيس سلوان الآثوسيِّ.

الأولى من القرن الأوَّل الميلاديِّ، والثاني معاصر (1866-1938م).

تقلا قدَّمت شهادة حمراء، فوقفت أمام الحاكم غير آبهة بكلِّ تهديداته وعذاباته وسلطته، وأعلنت مسيحيَّتها بكلِّ افتخار وشجاعة قائلة: «أنا أمة الإله الحيِّ».

سلوان قدَّم شهادة بيضاء إذ أضحى إنجيلًا حيًّا بكلِّ ما للكلمة من معنى، بحيث جاهد الجهاد الحسن، صالبًا في ذاته كلَّ ما لا يليق بالمصلوب الفادي.

كلاهما رفعهما الربُّ إليه، وأعطاهما مجدًا ما بعده مجد، وشَركة ميراث القدِّيسين في النُّور (كولوسي 1: 12).

خلاصة، يا لها من ثلاثيَّة ليست من هذا العالم: الرفع والصلب والمجد.

إلى الربِّ نطلب.

[1]«وأنا إنِ ارتفعتُ عن الأرض أجذبُ إليَّ الجميع». قال هذا مشيرًا إلى أيَّة ميتة كان مُزمعًا أن يموت.