للربِّ يسوع المسيح ألقاب كثيرة، منها الضابطُ الكلَّ والمعلِّم. نشاهد في أيقونة الربِّ أنَّه يحمل بيده اليسرى إنجيلًا، تارةً نراه مغلقًا وطورًا مفتوحًا وفي داخله كتابة.

السائد أنَّ الأيقونة الَّتي فيها الإنجيل مغلقًا تدعى أيقونة الضابط الكلَّ، والَّتي فيها الإنجيل مفتوحًا تدعى أيقونة الربِّ المعلِّم، بالإضافة إلى لقب الضابط الكلَّ.

كما أنَّ هناك معانيَ أخرى في هذا السياق، وهي أنَّ الإنجيل المغلق يشير إلى أنَّ كلَّ شيء قد أُعلِنَ وتمَّ.

الإيمان أُعلِن لنا بالكامل كما كتب يهوذا تلميذ يسوع. طبعًا هو ليس يهوذا الإسخريوطيَّ: فيهوذا يطلب من المؤمنين أَنْ يجتهدوا لأجل الإيمان المُسَلَّم مرَّةً للقدِّيسين (يهوذا 1: 3).

هذا الإيمان الَّذي سُلِّم إلينا يضعنا أمام مسؤوليَّة كبيرة ودينونة. كما أنَّ الربَّ كشف لنا عن طبيعته الإلهيَّة وبأنَّه المخلِّص. وأن نُكنَّى باسمه يعني أن نجاهد الجهاد الحسن لتطبيق أقواله وتعاليمه. فيا لها من ساعة مرهوبة نقف فيها أمام الديَّان العادل، وتُكشَف أعمالنا وتظهر نوايانا غير المخفيَّة على إلهنا.

أقدَمُ أيقونة للضابط الكلَّ تعود إلى القرن السادس الميلاديِّ، وهي موجودة في دير القدِّيسة كاترينا في سيناء. هي أيقونة رائعة الجمال مشغولة بالألوان النباتيَّة الطبيعيَّة الممزوجة بشمع العسل Encaustique. تقنيَّة قديمة وصعبة ودقيقة جدًّا، وتعطي جمالًا مُبهِرًا.

الربُّ في هذه الأيقونة ينظر إلينا مباشرة، وفي الوقت نفسه يحدِّق بالعالم غير المنظور، المدعوُّون نحن إليه، أي ما بعد هذا العالم المحدود. ونلاحظ فيها أنَّ عينَي الربِّ ليستا متطابقتين، إشارة إلى طبيعتيه الإلهيَّة والبشريَّة.

هذه الطريقة من التصوير تترجم اللاهوت والتدبير الخلاصيَّ الَّذي يجب أن نضعه نصب أعيُننا، ولا يغيب عن ذهننا في مسيرة حياتنا على الأرض. فنحن خُلقنا لنقتبل الإلهيَّات ولا تتسلَّط علينا الترابيَّات. نحن البشر مزيج من تراب ومن نسمة الحياة الَّتي نفخَها الربُّ فينا.

في العهد القديم أوصى الربُّ الشعب اليهوديَّ بحزم كبير أن يكون أمينًا على وصاياه، وألَّا يتغافل عنها، وتكون في صدارة حياته، وعصائب بين عينيه، ويعلِّم أولاده أنَّ الله حرَّره من عبوديَّة فرعون (تثنية 6)، وحذَّرهم قائلًا: "فاحترزوا من أن تنغَوِيَ قلوبُكم فتَزيغوا وتعبُدوا آلهةً أخرى وتسجدوا لها" (تثنية 11: 16).

لأهمِّيَّتها الكبرى تدعى هذه الوصايا Shema أي السماع، لأنَّها تبدأ هكذا: "فاسمعْ يا إسرائيلُ واحترِزْ لتعملَ، لكي يكونَ لك خيرٌ وتَكثُرَ جدًّا" (تثنية 6: 3).

كلام الربِّ واضح ولا التباس فيه. القُرب من الله خيرٌ والبُعد عنه شرُّ. الأمر بيدنا نحن. إمَّا أن نشتدَّ لكلمة الله وننمو فيها، وإمَّا أن نسمح للخطيئة بأن تتسلَّط علينا فنكون عبيدًا لها.

هذا الاحتراز لا يكون موسميًّا أو انتقائيًّا أو شكليًّا بل يوميًّا، وفي كلِّ لحظة، لأنْ لا أحد يعرف متى تدركه المنيَّة فيخسر فرصة توبته.

وعندما يقول الكتاب المقدَّس بأنَّ الربَّ إِلهَنا إِلهٌ غَيُورٌ (تثنية 6: 15)، فهذا يعني أنَّه لا يوجد أيُّ ازدواجيَّة في عبادتنا له. ليس لأنَّه إله متسلِّط، بل لأنَّ الخير والشرَّ لا يمكن أن يلتقيا، ولا مهادنة بينهما، ولا اتِّفاق، ولا مسايرة. بل قطيعة كاملة، قطيعة لا رجوع فيها. من هنا قال الربُّ يسوع بأصرح العبارة: "مَن ليس معي فهو عليَّ، ومَن لا يَجمَعُ معي فهو يفرِّق" (لو 11: 23).

الشرِّير يفرِّق ويبدِّد لأنَّه ساقِطٌ ويريد أن يسقط الجميع معه في ظلامه وتخلُّفه. فغيرة الربِّ هي علينا لأنَّه يريد خلاصنا، وأن نكون أحرارًا لا عبيدًا، ونعيش بُنُوَّته بالروح القدس، وأن نتبع الحقَّ لا الضلال.

هنا يأتي دور الإنجيل المفتوح على مصراعيه ليتعلَّم الجميع دون أيِّ استثناء، فالربُّ لم يأت لأمَّة دون أخرى، بل لكلِّ الشعوب قاطبة، وهو أوصانا بأن ننقل تعليمه أينما حلَلْنا بالعيش والممارسة، والمعرفة والتعليم، فتكون قلوبنا مفتوحة على الروح القدس والنور الإلهيِّ والآخرين، ولا تكون مغلقة بالأنانيَّة والكبرياء والرياء والرذيلة دون التوبة.

نعم، الربُّ يريد أن يكون الإنجيل مفتوحًا في كلِّ منزل وعائلة، لتكون بيوتنا قلاعًا مبنيَّة على الصخرة الَّتي هي المسيح، وتندحر كلُّ الانحرافات عليها ولا تدخل نفوسَها وتُسقطها.

كما يريدنا أيضًا أن نعي عن يقين بأنَّه الضابط الكلَّ ولا أحد فوق سلطته، وأن نعيش بحسب مشيئته الخلاصيَّة.

مَن اختبر الخلاص الإلهيَّ نال بركة ما بعدها بركة، وهذا تحديدًا ما تشير إليه حركة أصابع يد الربِّ اليمنى في كلا الأيقونتين، فهي تمثِّل الحرف الأوَّل والأخير من كلمتَي يسوع المسيح في اللغة اليونانيَّة القديمة IHCOYC XPICTOC، وكأنَّنا بذلك نقرأ أنَّ الربَّ هو الألف والياء، أي البداية والنهاية، أي كلُّ شيء.

هكذا أيضًا يبارك الكاهن ليقول إنَّ الربَّ القدُّوس هو المبارِك.

طبعًا لا ننسى الهالة النورانيَّة خلف رأس الربِّ والصليب في وسطها، والأحرف الثلاثة باللغة اليونانيَّة[1].

خلاصة الكلام، الربُّ هو السيِّد ولا سيِّد آخر علينا في حياتنا، وهو المعلِّم، وأجمل تعليم عندما نقرأ في الأيقونة الَّتي تظهر الإنجيل المفتوح على الآية التالية: "أنا هو نور العالم. مَن يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة" (يو 8: 12).

إلى الربِّ نطلب.

[1]- راجع مقالة الهالة النورانيَّة-السبت 30 أيلول 2023 -الأب أثناسيوس شهوان- موقع "النشرة" الإلكترونيّة