يلمع اسم ليونيد أوسبنسكي[1] في عالم الأيقونات بشكل كبير، وتُعتبر كتاباته في هذا المضمار من أعمق الكتابات وأغناها، حتَّى إنَّ كثُرًا يعتبرونه الأعمق والأغنى.

ليونيد روسيّ الجنسيَّة، كان ملحدًا ومحاربًا عنيفًا للأيقونات، ثمَّ أصبح شارحًا كبيرًا لها ومبدعًا في تصويرها وتكريمها. في سيرته الكثيرُ من العِبَرِ، وسبحان الله كيف عبر هذا الروسيُّ من الظلمة إلى النور، تاركًا لنا كتاباتٍ نورانيَّةً في النافذة إلى الملكوت، الَّتي هي الأيقونة.

هو من عائلة تعمل في الزراعة، متوسِّطة الثراء، ويُعتبر والده من النبلاء في منطقته. وعلى الرغم من إحساسه المرهف لكونه كان رسَّامًا منذ صغره، إلَّا أنَّه كان قاسيًا جدًّا ومشاغبًا، منذ أن كان في المدرسة.

كان ليونيد يحثُّ الناس بقوَّة على الإلحاد، وكان يدخل المنازل باحثًا عن الأيقونات ليكسرها ويرميها خارجًا من النوافذ.

فور التحاقه بالجيش الأحمر أصيب بمرض التيفوس (Typhus)، فمرَّ بظروف صعبة جدًّا، إذ وُضع في القطار الطبِّيِّ للجيش الَّذي كان ينتقل من منطقة لأخرى بحثًا عن مكان لإيفاء المرضى دون جدوى، لأنَّ المستشفيات كانت مكتظَّة بالمصابين.

فقرَّر النزول من القطار في إحدى المدن ليبحث بنفسه عن مكان يأويه. صُدَّت في وجهه الأبواب، وكان الجميع يخشون أن ينقل إليهم العدوى، إلَّا أنَّ إسكافيًّا فقيرًا تحنَّن عليه، وأواه عنده وأطعمه. وما إن شُفي حتَّى عاد إلى الجنديَّة.

أُصيب ليونيد في إحدى المعارك، وانفجرت قذيفة بجانبه، فمات حصانه على الفور، أمَّا هو فوجد نفسه ملقًى على الأرض وحيدًا غير مصاب. أسره الجيش الأبيض، وأوقفوه أمام حفرة ليعدموه ويرموه فيها. وقبل أن يطلق عليه النار، حصلت المفاجأة. فقد أمر أحد الضبَّاط الكبار بإلحاقه بفرقة مدفعيَّة. وكانت الأوامر بقتله فورًا دون أيِّ سابق إنذار في حال صدر عنه أيُّ تلكُّؤ أو كلام مناهض.

هذا الأمر جعله يكتشف سرَّ الصمت كما عبَّر.

ويخبر أنَّ زوجته سألته عمَّا إذا كان شعر بالخوف، فأجاب بأنَّه كان مصدومًا للغاية، ولم يكن يفهم ما كان يحصل معه.

كما يخبر أيضًا أنَّ مشهد قتل إنسان أعزل بالسيف أمامه، وطلب الرحمة من قبل الضحيَّة، جعله يمقت كلَّ عمليَّة قتل مهما كان سببها. وبقي هذا الحادث في ذاكرته كلَّ أيَّام حياته.

الظروف بعد الحرب كانت مأسويَّة جدًّا، فقد سافر ليونيد إلى بلغاريا، وعمل في ميادين مختلفة شاقَّة: في مصنع ملح، وفي كرم، وكعامل مقلع، وفي منجم للفحم. أصيب في العمل إصابات بالغة. وغالبًا ما كان يتضوَّر جوعًا لدرجة أنَّه أصبح شبه أعمى بسبب سوء التغذية.

سافر بعدها إلى فرنسا، وعمل في مسبك، ووقع في المعدن المنصهر، وأصيب بحروق شديدة، وبقي في المستشفى لعدَّة أسابيع.

في العام 1929م، التحق ليونيد بمعهد للفنون الجميلة في باريس، وبدأ يرسم نسخًا عن البطاقات البريديَّة متابعًا عمله كأجير يوميٍّ في مصنع للدرَّاجات، ثمَّ أصبح يعمل ليلًا في تفريغ حمولات الشاحنات ليتفرَّغ للرسم نهارًا.

مع الرسم بدأت حياته تتغيَّر، فأصبح يقتات من رسومات يقوم بها على أقمشة لمصانع تصنع الشالات.

لم يتأخَّر الوقت، حتَّى رسم أوَّل أيقونة نتيجة تحدٍّ مع زملائه لصعوبة رسمها بإتقان. ربح الرهان وخرجت من تحت يديه أيقونة رائعة الجمال، فما كان منه أن قام بكسرها على الفور.

ولكن يبدو أنَّ وقت اصطياده بالنسبة إلى الربِّ قد حان، فسرعان ما دخل ليونيد في صراع بينه وبين نفسه، إذ باتت الأيقونة الَّتي رسمها وكسرها لا تفارق ذهنه، وبدأ يشعر بجمال أبعد من الجمال المنظور، وبسلام في داخله يملأ كيانه ولا يستطيع أن يفسِّره.

رويدًا رويدًا، انجذب للأيقونات ولجمالها ومعانيها، فلم يعد يرسم غيرها.

طوَّر ليونيد مهارته بمساعدة صديق له أصبح راهبًا فيما بعد، وبالنظر إلى أيقونات مهمَّة كانت في متناول تجَّار الأشياء الأثريَّة، إذ لم يستطع إكمال دراسة الرسم مع رسَّامين روس نتيجة الكلفة العالية.

إلتحق بمجموعة من اللاهوتيِّين والفنَّانين الكنسيِّين الأرثوذكس في فرنسا، ولعب مع آخرين دورًا مهمًّا جدًّا في نموِّ الكنيسة الأرثوذكسيَّة الروسيَّة هناك.

برع في مجاله وأصبح أستاذًا أكاديميًّا في اختصاصه. أعطى محاضرات في جامعة السوربون (Sorbonne)، وعلَّم في معهد القدِّيس ديونيسيوس الأريوباغيِّ.

مع بدء الحرب العالميَّة الثانية، واحتلال النازيِّين لفرنسا، عاش في الخفاء كيلا يجبر على العمل في المصانع الحربيَّة الألمانيَّة. هذا ما جعله يغوص أكثر في الصلاة وتصوير الأيقونات.

بعد سنوات طوال شعر ليونيد بأهمِّيَّة شرح لاهوت الأيقونة لارتباطها بالتدبير الإلهيِّ للبشر الَّذي تمَّمه الربُّ يسوع المسيح، فأصدر في العام 1948م كتيِّبًا صغيرًا باللغة الفرنسيَّة يشرح جوانب معيَّنة من الأيقونة، بعنوان: الأيقونة رؤية العالم الروحيِّ[2]. ونظرًا لأهمِّيَّته، تُرجم إلى لغات متعدِّدة، اليونانيَّة والإنكليزيَّة والألمانيَّة.

هكذا انفجر نهر النعمة من ليونيد وبدأ يسقي المؤمنين بكتاباته الرائعة عن الأيقونات. كما كان يعمل بكدٍّ كبير وصمت عميق في التصوير الإيقونغرافيِّ والترميم والنحت. لقد أصبح جنديًّا في جيش الربِّ القدّوس، لزرع الكلمة الإلهيَّة في النفوس، ومنع الشرِّير من كسر صورة الله فيها، كما كان يفعل هو بالأيقونات سابقًا.

زار روسيا عدَّة مرَّات وأعطى محاضرات روحيَّة في أكاديميَّة Saint-Pétersbourg وغيرها. وكرَّمته الكنيسة الروسيَّة برتبة Saint-Vladimir من الدرجة الثانية ثمَّ الأولى.

كان يردِّد دائمًا، أنَّ هناك جمالًا أبعد من كلِّ ما نراه، وهو لم يستطع بعد بلوغ الجوهر. كان رجل صلاة ويمقت حُبَّ الظهور.

رقد ليونيد في العام 1987م على أثر مرض اعتراه، تاركًا لنا كنزًا من الكتابات الغنيَّة، ودعوة لقراءة كلِّ ما يحدث معنا في حياتنا بمنظار إلهيّ.

إلى الربِّ نطلب.

[1]- Léonide Ouspensky (1902-1987م)

[2] -L’Icone, Vision du Monde Spirituel