عشَّاق الأيقونة كثُر، ولكنَّ الأهمَّ عِشْقُ ما تمثِّلُه الأيقونة. هنا يكمن الدخول في مشروع ملكوت الله الَّذي افتتحه الربُّ يسوع المسيح، وعنوانه ما أعلنه هو: «أنا هو الطريق والحقُّ والحياة. ليس أحدٌ يأتي إلى الآب إلَّا بي» (يوحنَّا 14: 6).

تشكِّل هذه الآية بالنسبة إلى المسيحيِّين أحد إعلانات يسوع عن ألوهيَّته، وخاصَّة أنَّها أتت في سياق حوار مهمٍّ جدًّا دار بينه وبين تلاميذه.

فقبل أن يُصلَب طوعًا ويقوم في اليوم الثالث بسلطان طبيعته الإلهيَّة، قال للتلاميذ: «لا تضطربْ قلوبُكم. أنتم تؤمنون بالله فآمِنوا بي»، وأكمل: «الَّذي رآني فقد رأى الآب» (يوحنَّا 14: 1-9).

كلمة «آب» بالمعنى اللاهوتيِّ – الكتابيِّ تعني الله. فهل قصد يسوع بأنَّه الله؟ نقولها عن كلِّ يقين: «نعم». وفي الإصحاح ذاته يقول: «أنا في الآب والآب فيَّ» (يوحنَّا 14: 10).

فالمسيح المتجسِّد هو أحد الأقانيم الثلاثة، وثلاثتُهم الله، وهم إله واحد، وواحد في الجوهر وليس ثلاثة آلهة.

قد يشكِّل هذا الكلام بالنسبة إلى البعض جنونًا، وإلى البعض الآخر كفرًا، كما قد يكون لآخرين أمرًا غير مفهومٍ على الإطلاق.

نقرُّ بأنَّ الأمر ليس سهلًا، ويتعدَّى المنطق البشريَّ المحدود، فكيف هم ثلاثة وفي الوقت نفسه واحد؟ وكيف الَّذي تجسَّد ووُلد طفلًا وصُلب هو الله؟

الجواب في المحبَّة الإلهيَّة اللامحدودة، فالتجسُّد هو ترجمة للمحبَّة الإلهيَّة الَّتي لا توصَفُ، وللمشيئة الثالوثيَّة الواحدة.

وليس في الثالوث القدُّوس أيُّ تشريك، لأنَّ طبيعة الآب والابن والروح القدس واحدة: إلهيَّة. وشركتهم شركة محبَّة، ووُجودُهم خارج الزمن، وليس مِن فارق زمنيٍّ بينهم. فالآب هو الله والابن هو الله والروح القدس هو الله، وهم إله واحد وليس ثلاثة آلهة.

لهذا نجد كلام يسوع وأفعاله فريدة لا تُقارَنُ بشيء ولا تتشابَهُ مع شيء، فكلُّها إلهيَّة. كذلك هو لا يمكن مقارنته بأحد مخلوق، لأنَّه الإله المولود غير المخلوق، أي هو إله وأصبح إنسانًا.

هذا إيماننا، نعلنه في دستور الإيمان، ونصوِّرُه فنًّا إيقونغرافيًّا.

لا بدَّ هنا من توضيح قواعد ثابتة في الأيقونة حول الآب والابن. هل يجوز أو لا يجوز تصوير الله الآب في الأيقونة؟

الجواب قطعًا لا، لأنَّ الله الآب، بكلِّ بساطة، لم يتجسَّد. قد نشاهد الآب كرجل مُسِنٍّ في بعض الجداريَّات والأيقونات، ولكنَّ هذا أتى بتأثير غربيٍّ مثل لوحة الخلق للفنَّان «مايكل أنجلو» الشهيرة في « كنيسة السكستين Chapelle Sixtine » في الفاتيكان، وغيرها، وحتَّى من تفسير القديم الأيَّام الواردة في سفر النبيِّ دانيال مثلًا.

وقد ظهر التأثُّر في الفنِّ الروسيِّ بشكل خاصٍّ في العصور المتقدِّمة، حتَّى أنَّهم أدخلوه جبل آثوس. ولكنَّ هذا الأمر مرفوضٌ جذريًّا لأنَّ الأيقونة لا تنفصل عن العقيدة الإيمانيَّة إطلاقًا. الإنجيل واضح في ذلك: «الله لم يره أحد قطُّ. الابن الوحيد الَّذي هو في حضن الآب هو خبَّر» (يوحنَّا 1: 18).

خير مثال على ذلك أيقونة الثالوث القدُّوس لكاتب الأيقونات الشهير «أندريه روبليف» (1360-1430م) الَّتي صوَّرت الأقانيم الثلاثة على شكل ملائكة بوُجوه فتيَّة. كما أنَّ مجمع موسكو (1667م) منع تصوير الله الآب في الأيقونات تأكيدًا لعدم تأنُّسه.

وبقدر ما أكَّدت الكنيسة على هذا الأمر، أصرَّت في الوقت نفسه على تصوير الابن بشخصه المتأنِّس، لأنَّ الأيقونة بشكل خاصٍّ وأساسيٍّ مرتبطة بالتجسُّد الإلهيِّ. ففي العهد القديم قبل التجسُّد لم يكن الأمر كذلك.

لهذا نجد ما يُعرَف بالمجمع الخامس-السادس Concile quinisexte (692م) يعالج موضوعًا مهمًّا جدًّا. فقد كان يُعتَمَد في بعض التصاوير الَّتي انتشرت في الغرب، تصوير الربِّ يسوع بالحمَل، ويشير إليه القدِّيس يوحنَّا المعمدان بالإصبع.

فعلى الرغم مِن كون اعتماد الحمَل يرتبط بالحمَل الفصحيِّ في العهد القديم، والَّذي كان صورة مسبقة عن الحمل الحقيقيِّ الَّذي هو الربُّ، وهذا تحديدًا ما قاله القدِّيس يوحنَّا المعمدان عن يسوع عندما كان الربُّ مقبلًا إليه: «هُوذا حمَلُ الله الَّذي يرفع خطيئة العالم!» (يوحنَّا 1: 29)، إلَّا أنَّ المجمع طلب قانونيًّا (رقم 82) تصوير شخص يسوع وليس الحمل، تأكيدًا على أنَّ الربَّ أخذ جسدًا مثلنا ليفدينا ويرفعنا إليه، شارحًا أنَّ التجسُّد هو فخر للبشريَّة ما بعد فخر.

هذه هي المرَّة الأولى الَّتي يقوم فيها مجمع بتأكيد الارتباط الوثيق بين العقيدة والأيقونة، مع العلم أنَّ هناك كتابات مِن القرن الرابع الميلاديِّ تشرح أهمِّيَّة وجود الجداريَّات والأيقونات في الكنائس كمُساعد للتعليم وتأكيد للتجسُّد.

كما يحرص المجمع تذكيرنا بأنَّ ما نشهده "يسوع" ليس بشريًّا عاديًّا فحسب، بل هو الإله الكائن قبل الدهور وتجسّد، كما قال الربُّ لليهود: «قبل أن يكون ابراهيم أنا كائن» (يوحنَّا 8: 58).

لهذا نجد وجه الربِّ المصوَّر بعيدًا كلَّ البعد عن الجمال البشريِّ المحدود، بل هو جمال إلهيٌّ. وهكذا أتت أيضًا وجوه القدِّيسين والقدِّيسات ، وعلى رأسهم والدة الإله. لهذا مِن أهداف وجود الأيقونة أن تذكِّرنا بما نحن مدعوُّون إليه، أي التألُّه.

وإذا سألنا كيف ننظر إلى الأيقونة، يجيبنا المجمع نفسه (قانون رقم 100)، فيقول: «لِتَنْظُرْ عَيْنَاكَ إِلَى قُدَّامِكَ، وَأَجْفَانُكَ إِلَى أَمَامِكَ مُسْتَقِيمًا» (أمثال 4: 25) ، لأنَّ الحقَّ له وجه واحد، وهو الربُّ يسوع المسيح له المجد.

ختامًا، النظر إلى الربِّ باستقامة يأتي نتيجة توبة عظيمة، وتواضع ومقت للأنا. وإلَّا عشنا في الانحراف، وأضعنا الوجه الإلهيَّ الآتي إلينا ليُنيرنا ويمحو كلَّ ظلمة مِن حياتنا.

إلى الربِّ نطلب.