ما إن سقطت القسطنطينيَّة في يد العثمانيِّين عام 1453م، حتَّى نشطت المدرسة الكريتيَّة (نسبة إلى جزيرة كريت) للأيقونات، إذ انتقل إليها كثيرون من كاتبي الأيقونات، جالبين معهم خبرتهم وفنَّهن وتقنيَّتهم. وكانت جزيرة كريت قد عرفت سابقًا انتقال كاتبي أيقونات إليها، ولكنَّ سقوط القسطنطينيَّة جعلها أكثر شهرة. وهي بحسب الخبراء بقيت كذلك إلى القرن السابع عشر الميلاديِّ، إلى حين وقوعها أيضًا تحت الاحتلال التركيِّ، وانتقال المدرسة إلى الجزر الأيونيَّة في اليونان.

موضوع مقالتنا أيقونة رائعة جدًّا موجودة في دير Dionysiou في جبل آثوس، لكاتب الأيقونات الكريتيِّ، يُدعى Tzortzis Phouka (1547م). الأيقونة بعنوان: «رؤيا القدِّيس بطرس الاسكندرانيِّ».

القدِّيس بطرس من بدايات القرن الرابع الميلاديِّ، وكان أسقف الإسكندريَّة. تميَّز بإيمانه وتقواه وعلمه ورعايته، وكتبوا عنه أنَّه كان مثالًا للأسقف الأمين والمحبِّ. قضى بطرس في العام 311م شهيدًا بقطع رأسه لأجل المسيح، كحال كثير من المسيحيِّين الَّذين رفضوا أن يُنكروا إيمانهم.

وقد جرى أنَّه في العصر ذاته بدأت تنتشر هرطقة الكاهن الليبيِّ آريوس، الرافض لألوهة الربِّ يسوع المسيح، وكان هو أيضًا يتبع الإسكندريَّة.

أتى في سيرة القدِّيس أنَّه حصلت معه رؤيا عندما كان مرميًّا في السجن. فقد رأى الربَّ يسوع بهيئة صبيٍّ في الثانية عشرة من عمره، يرتدي ثوبًا ممزَّقًا. ويدا الربِّ ممسكتان بشقَّي الثوب، محاولة لستر عُريه.

فسأله بطرس: «يا سيِّد، مَن الَّذي مزَّق ثوبك؟».

فأجاب: «آريوس!». وطلب منه الربُّ ألَّا يقبله في الشركة معه، ويحذِّر الكنيسة منه والكهنة. كما أوصىاه بأن يحافظ على الإيمان المستقيم.

فيما يخصُّ الأيقونة (موضوع المقالة)، فقد بدأت تظهر في الكنيسة ابتداء من القرن الثالث عشر، مع تعديل في بعض التفاصيل عمَّا أتى في رؤيا القدِّيس بطرس.

نشاهد فيها القدِّيس بطرس الإسكندريَّ بشكل نصفيٍّ مرتديًا لباس الأسقف، والقطعة الَّتي توضع على الأكتاف «الاموفوريون Omophorion[1]» عليها صلبان.

يرفع القدِّيس يديه نحو الربِّ يصلِّي ويتضرَّع، ونظره موجَّه إليه وإلى الأفق في الوقت ذاته، إشارة إلى التطلُّع إلى الملكوت مشتهى كلِّ مؤمن ومُجاهد. ألم يقل لنا الربُّ: «اطلُبوا أوَّلًا ملكوت الله وبرَّه»؟ (مت 6: 33).

أمَّا الربُّ يسوع فنشاهده واقفًا يبارك الأسقف القدِّيس بيده اليمنى، ويحمل بيده اليسرى لفيفًا إشارة إلى رسالة الخلاص الَّتي تمَّمها بتجسُّده وصلبه وقيامته، وتحقيقًا لكلِّ النبوءات في العهد القديم عن مجيء المسيح.

ملامح يسوع تشير إلى أنَّه فتى كما أتى في رؤيا بطرس. وثوبه ممزَّق.

الكتابة باللغة اليونانيَّة على الأيقونة تشرح ما يجري:

إسم القدِّيس بطرس الإسكندريِّ، مَن مزَّق ثوبك يا مخلِّص؟ آريوس المتهوِّر وعديم الإدراك. كما نشاهد آريوس تحت الربِّ واسمه فوقه، ويبدو كمسجون.

ما تشير إليه الأيقونة هنا عقائديٌّ محضٌ. هذا أمر طبيعيٌّ لأنَّ الأيقونة تأتي من رحم التجسُّد الإلهيِّ، وهي تسير جنبًا إلى جنب مع الإيمان المسيحيِّ من القرون الأولى.

أمَّا ثوب يسوع الممزَّق فتفسيره الإيمان غير المستقيم. فكلُّ إنكار لألوهة يسوع هو أكثر من هرطقة، هو تمزيق لجسد الكنيسة، كما فعل آريوس مع المؤمنين وضلَّلهم.

صيرورة الله إنسانًا وبقاؤه إلهًا، هو جوهريٌّ في المسيحيَّة. وهذا ما يميِّزها عن كلِّ المعتقدات الأخرى، إذ هي الوحيدة الَّتي تعلن هذا الإيمان.

هذا المشروع الإلهيُّ الخلاصيُّ للبشريَّة والوحيد يجعل المسيحيَّة خارج التعابير الاجتماعيَّة الَّتي تضعها في خانة الأديان. ولا يتفاجأنَّ أحد إن قلنا إنَّ المسيحيَّة ليست دينًا، ولا أنظمة وشرائع. وكلُّ النبوءات في العهد القديم تكلَّمت على هذا التدبير الإلهيِّ economia، منذ الصفحة الأولى من الكتاب المقدَّس، وتحقَّق بمجيء الربِّ يسوع إلينا ليرفعنا إليه، إلى موطننا الأوَّل. هذه دعوة للبشريَّة جمعاء دون أيِّ استثناء.

فما وقع به آريوس لم يكن جديدًا، ولم ينتهِ. الحضارات القديمة تكلَّمت على آلهة كونيَّة منزَّهة عن البشريَّة لا يمكن بلوغها. واعتبرت أنَّ المنزَّه يصبح مادَّة إذا اتَّحد بالمادَّة، وهذا أمر مرفوض. كأنَّهم بذلك يقولون إنَّ المادَّة المخلوقة تستطيع أن تفسد غير المخلوق، فتكون المادَّة عندئذ أقوى من الألوهة!

المسيحيَّة واضحة في هذا الأمر وقاطعة، فالربُّ يسوع المسيح عنده طبيعتان: إلهيَّة كاملة وبشريَّة كاملة، ولم تُلغِ الواحدةُ الأخرى.

فالتجسُّد هو من فيض محبَّة الله لنا، واتِّحاده بنا، لأنَّنا أولاده بالنعمة. وإذا سألنا: «ألا يستطيع الله أن يتجسَّد؟» يكون الجواب: «بالطبع يستطيع لأنَّه القادر على كلِّ شيء». فهل يُعقل إذًا أن نفرض على الله عدم تقبُّلنا للتجسُّد بحجَّة الدفاع عن تنزيهه؟ علمًا أنَّه لا يستطيع شيء أن يدنِّسه لكونه الله.

هذا السرُّ العظيم يُقترب إليه باكتشاف المحبَّة الإلهيَّة اللامتناهية، وبالمحبَّة ذاتها نقترب في القدَّاس الإلهيِّ من القدسات: جسد ودم الربِّ الكريمين. ويقول شُرَّاح الأيقونات بأنَّ أيقونة رؤيا القدِّيس بطرس تضع أمامنا أيضًا، يسوع الممدَّد في صحن Diskos الإفخارستيَّة.

ختامًا، كان القدِّيس بطرس الإسكندريُّ يرفض الجلوس على العرش الأسقفيِّ، وكان يجلس تحته، مردِّدًا: «الخوف والرعدة يعتريانني كلَّما دنوت من العرش الأسقفيِّ، فأنا أنظر سلطان العليِّ وضياءه مستقرًّا عليه، سلطان ربِّنا يسوع المسيح الَّذي هو وحده الكاهن الأكبر». كذلك كان يعتريه الشعور نفسه أمام القدسات لإيقانه أنَّ ما يتناوله استحال إلهيًّا.

ألا اعترانا نحن أيضًا رهبة قدِّيسنا، وألا اشتهينا التواضع وخدمة المحبَّة لا المجد الباطل، معترفين بأنَّ إلهنا الفادي هو المخلِّص الوحيد ولا إله غيره، عندها فقط لا نشترك بتمزيق ثوب المسيح بعشقنا لأنفسنا وتأليه ذاتنا.

إلى الربِّ نطلب.

[1]- ὠμοφόριον (ōmophórion), from Ancient Greek ὦμος (ômos, “shoulder”) + φέρω (phérō, “carry”).