في وقتٍ تتواصل الحرب على قطاع غزة، وتستمرّ معها المجازر المروّعة التي ترتكبها القوات الإسرائيليّة بحقّ الشعب الفلسطيني، والمآسي الإنسانيّة التي تخلّفها باستهداف المستشفيات والمدارس والمنازل من دون تمييز، ينشغل اللبنانيون بـ"حرب" من نوع آخر، يهواها ربما الكثيرون منهم، ولا يتردّدون في خوضها، حتى في عزّ الخشية المستمرّة أيضًا من توسّع رقعة القتال الدائر عند الحدود الجنوبية، إلى كامل الخريطة اللبنانية.
فعلى مدى الأسبوع الماضي، كانت "الحرب على المستشفيات" في غزة الشغل الشاغل للعالم بأسره، مع ما سبّبته من "حَرَج" لداعمي إسرائيل، وإن ردّدوا "البروباغندا" المخالفة لكل قواعد القانون الإنساني الدولي، لكن في لبنان، كان الاهتمام مركّزًا على ملفٍ آخر، أخذ مداه من النقاشات والسجالات، وهو ملف التمديد "المرتقب" لقائد الجيش العماد جوزيف عون، الذي يبدو أنه "سلك طريقه" على الرغم من معارضة "التيار الوطني الحر" المُطلَقة.
ولعلّ سجالات نهاية الأسبوع تجسّد "الفرادة اللبنانية" بحدّ ذاتها، ففيما العالم منشغل بالحرب على غزة، ومنقسم حول وقف إطلاق النار، الذي يصطدم برفضٍ مُستغرَب من بعض الدول الغربية، انشغل اللبنانيون بحرب "افتراضية" جديدة بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" بسبب التمديد لقائد الجيش، تخلّلتها عباراتٌ من النوع الذي "يحبّه" الطرفان، من طراز "العار" و"القبع" و"النكاية" و"العامل بالأجرة"، إلى آخره من النعوت المشابهة.
فما الذي يعنيه وصول السجال السياسي إلى هذا الدرك والمستوى، وفي هذه المرحلة التي بات الخلاف السياسي معها "تفصيلاً" أمام مشاهد الدماء والقتل والمجازر؟ هل يندرج هذا السجال ضمن "تداعيات" التمديد لقائد الجيش التي سبقت حصوله عمليًا؟ وهل بات هذا التمديد "محسومًا" فعلاً، سواء من الحكومة أو مجلس النواب؟ وكيف سيردّ "العونيّيون" على ذلك، وهم الذين يشهرون "الفيتو" في وجهه، ويتعهّدون بالتصدّي له بكل الوسائل المُتاحة؟.
في المبدأ، يقول العارفون إنّ كلّ المؤشرات توحي بأنّ مسار التمديد لقائد الجيش قد انطلق فعليًا، وأنّ جميع الفرقاء باتوا مقتنعين ضمنًا بأنّ التمديد حاصلٌ عاجلاً أم آجلاً، مهما عاند المعاندون، خصوصًا بعد الكلام الواضح الذي صدر عن البطريرك الماروني بشارة الراعي في هذا الصدد، ولو أنّ هذا المسار لا يزال يصطدم ببعض المطبّات، في ظلّ موقف "التيار الوطني الحر" المعترض بالمُطلَق، وموقف "حزب الله" المتريّث حتى إشعار آخر.
ولعلّ ما يعزّز هذه القناعة أنّ "جبهة" التأييد للتمديد لقائد الجيش باتت واسعة، فهي لا تضمّ "القوات اللبنانية" فحسب، بل معظم قوى المعارضة بمختلف فروعها وألوانها، بما يشمل حتى بعض "التغييريّين"، ومن سبق أن رفعوا شعار "لا للتمديد" في ساحات الاعتصام والتظاهر، والذين يبرّرون موقفهم اليوم بـ"الظروف القاهرة" التي تمرّ بها البلاد والمنطقة، وعدم جواز ترك المؤسسة العسكرية بلا رأس، فيما يستمرّ قرع طبول الحرب.
وإذا كانت هذه القوى "تختلف" فقط على "طريقة" إخراج التمديد، مع رفض بعضهم أن يمرّ عبر مجلس النواب، الذي يعدّونه "هيئة ناخبة حصرًا" في ظلّ الفراغ الرئاسي، وإصرارهم على وجوب أن تتحمّل الحكومة مسؤولياتها في هذا الصدد، فإنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري نفسه لا يبدو بعيدًا عنهم، وقد نقل "القواتيون" عنه "وعدًا" بتحديد موعد لجلسة برلمانية تفضي إلى التمديد لقائد الجيش، إذا لم تحسم الحكومة الملف هذا الشهر.
وفي حين يتريّث "حزب الله" في حسم موقفه، لعدّة اعتبارات وأسباب، بينها تفضيله أن يتّفق المسيحيون فيما بينهم على السيناريو الأفضل، ولكن أيضًا "مراعاة" رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، في ضوء "عودة التقارب" بينهما بعد عملية "طوفان الأقصى"، يبدو أنّ "الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي يتمسّك بشرط تعيين رئيس للأركان اليوم قبل الغد، لن يمانع التمديد لقائد الجيش متى طُرِح على الطاولة، وفق ما يؤكد المحسوبون عليه.
رغم ما تقدّم، ثمّة من يقول إنّ التمديد لقائد الجيش لم يُحسَم بشكل نهائي، طالما أنّ "الإجماع عليه" لم يتحقّق، وطالما أنّ "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" لم يوافقا عليه، باعتبار أنّ موقفه لا بدّ أن يكون "مفصليًا"، ولكن ماذا لم حصل التمديد رغمًا عن موقف "التيار"؟ كيف سيتصرّف "العونيّون" في هذه الحالة؟ وما هي التبعات على مستوى الاستحقاقات السياسية المقبلة، وعلى العلاقة مع سائر الأطراف والمكوّنات؟.
يرفض المحسوبون على "التيار الوطني الحر" هذا السؤال "الافتراضي" من حيث المبدأ، ويعتبرون أنّ الترويج لحسم استحقاق قيادة الجيش بهذا الشكل "غير بريء"، بل يهدف إلى حدّ بعيد "للتطبيع معه"، إن جاز التعبير، وجعله من "البديهيات" متى أقرّ، على الرغم من أنّه يشكّل "مخالفة فاقعة" للدستور الذي يوفّر خلافًا لكلّ المزاعم، "بدائل قانونية" تمنع أيّ "اهتزاز" في المؤسسة العسكرية، وتضمن استمراريتها بالزخم نفسه.
لعلّ أكثر ما "يستفزّ" من يوصَفون بـ"العونيّين" يتمثّل في "الغيرة المستجدّة" على الجيش لدى أكثر القوى التي "حاربته" على مرّ التاريخ اللبناني غير البعيد، بحسب ما يقولون، وإن كانوا يدركون أنّ هذه "الغيرة" لا تمثّل حرصًا على المؤسسة العسكرية، بقدر ما تشكّل "نكاية سياسية" بالمعنى الكامل للكلمة، بدليل التصريحات "غير الموفّقة"، لرئيس حزب "القوات" سمير جعجع، لمهاجمة باسيل، من دون أيّ مراعاة للتوقيت غير المناسب.
بالنسبة إلى التداعيات، ليس خافيًا على أحد أنّها بدأت، بدليل هذا السجال بين "التيار" و"القوات"، الذي أنهى عمليًا مرحلة "التقاطع" مع المعارضة على مستوى استحقاق رئاسة الجمهورية، فعلى الرغم من أنّ العلاقة بين "التيار" و"القوات" لم تتحسّن حتى عندما تقاطعا على خيار الوزير السابق جهاد أزعور، فإنّ الثابت أنّ "التيار" يعتبر موقف المعارضة بالمُطلَق من التمديد موجَّهًا ضدّه على المستوى الشخصي، وسيتصرّف بناءً على ذلك.
لكنّ "الأساس" الذي يترقّبه "التيار" يبقى موقف "حزب الله" الذي سيُبنى عليه الكثير، وفق ما يقول العارفون، إذ إنّ "العونيّين" الذين يعتبرون أنّهم "ساندوا" الحزب في معركته الحدوديّة منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، ينتظرون منه "موقفًا مساندًا" في ملف التمديد، وهم مقتنعون بأن "لا تمديد ولا من يحزنون" إذا كان الحزب "حازمًا"، ولم يكتفِ بموقف رماديّ، أو "غير ممانِع" في أحسن الأحوال، كما تتكهّن بعض الأوساط.
قد تكون تداعيات التمديد لقائد الجيش السياسية قد بدأت فعليًا، منهيةً ما تبقى من "التقاطع" بين المعارضة و"الوطني الحر"، إن بقي منه شيءٌ يُذكَر أصلاً. لكنّ التبعات على مستوى العلاقة بين "التيار" و"حزب الله" تبقى مؤجَّلة إلى حين، ليصبح معها السؤال عمّا إذا كان "ما بعد" استحقاق قيادة الجيش هو الذي "سيحسم" وجهة استحقاق رئاسة الجمهورية، أكثر من مشروع، في ظلّ سيناريوهات مطروحة قد تدخل حيّز التنفيذ في أيّ لحظة!.