الخلاف أو الإختلاف حول وظيفة الإعلام، كبير ومثير، لكن يمكن إجماله واختصاره في صورتين إثنتين، أولهما تتبنّى وجهة النّظر التّقليديّة التي تتمثّل في أنّ وظيفة الإعلام هي نقل، وعرض، ونشر الأخبار والأحداث، وحياة الناس كما هي، بدون أيّ تشويه لها، بمعنى أنّ الإعلام في هذه الحالة يعتبر مرآة شفّافة وأمينة تعكس الواقع بتجرّد تام. أمّا الصّورة الثّانية فترى أنّ وظيفة الإعلام تتجاوز ذلك بكثير، فهي عمليّة مستمرّة لصياغة، وتشكيل، وتوجيه الوعي الجماعيّ والرأي العام المجتمعيّ، لتصبح بذلك القوّة التي تأخذ بيد الرأي العام وتفرض عليه توجّهاته وآراءه وحتى معتقداته، من خلال المواد الإعلاميّة التي تعمل على إيصالها إليه، وفي الصّورة أو الحالة الثّانية يكون دور الإعلام من أخطر الأسلحة التي يمكن أن تستعملها الحكومات أو الأحزاب أو النّافذين في مجتمع ما، ويصبح ضلعًا مؤثّرا وفاعلا من أضلع السّيطرة والنفوذ الثّلاثة، المال والقوّة والإعلام، فكلّ ما يحدث الآن في وسائل ووسائط الإعلام الجديد، وشبكات ومنصّات التّواصل الإجتماعيّ، والتي أصبحت الأكثر استخداماً وتأثيراً، يؤكّد حقيقة الصّراع بين صورتَيْ واقع الإعلام في المجتمعات الإنسانيّة.

إنّ كميّة الأخبار، والأحداث، والقصص اللّحظيّة التي تنقلها وسائل وتطبيقات الإعلام ومواقع التّواصل الإجتماعيّ، تكاد تُغرقنا في بحر الأفكار، والتجاذبات، والإصطفافات، الأمر الذي يجعلنا في كثير من الأحيان نفقد بوصلة الإختيار والقدرة على الفرز؛ لكلّ ذلك الطّوفان الجارف من المحتوى والمواد الإعلاميّة التي تُنتجها وسائل الإعلام المختلفة، إضافة إلى مواقع التّواصل الإجتماعيّ المتعدّدة، فليس كلّ فرد من أفراد المجتمع الذين يتعرّضون لهذا الكمّ من المواد الإعلاميّة لديه الخبرة الكافية والإختصاص اللّازم لكي يميز الحقيقيّ من المزيّف منها، خاصّة ما يأتي من وسائل التّواصل الإجتماعيّ على اختلافها، في ظلّ غياب شبه تامّ لأيّ نوع من أنواع الرّقابة المسبقة على المحتوى الذي تنشره تلك الوسائط، فيأتي دور وسائل الإعلام التّقليديّة وحتّى الرقميّة والإلكترونيّة لتعمل على كشف الحقائق، ونشر الوقائع كما هي، ودفع كافّة الشّبهات والشّائعات التي يتعرّض لها جمهور مجتمع ما، حتّى لا يقع في أتون فخّ التّحريف والتّضليل الإعلاميّ، لتثبت حينها مهنة الصّحافة والإعلام بحقّ أنّها "مهنة المتاعب" أو "مهنة البحث عن المتاعب". فوظيفة الإعلام مسألة معقّدة وشائكة، لأنّ الإعلام لم يعد حالة ثابتة وواضحة، بل أضحى الآن منظومة هائلة لها مفرداتها، وأدواتها، وآلياتها، تتجدّد وتتطوّر بشكل لحظيّ ومكثّف، ما جعلها -أي وظيفة الإعلام- عصيّة على التّحديد، فضلاً عن إيجاد تعريف واضح لها، فلم يعد مصطلح الإعلام محصورًا بوسائله التّقليديّة فحسب، بل تعدّى ذلك ليشمل العديد من الوسائل، والوسائط، والمنصّات، وليس آخرها مصطلح الإعلام الرقميّ أو الإلكترونيّ الذي أثبت مكانته عن جدارة، وأصبح من المصطلحات الشّائعة، وبات اليوم هو الإعلام المسيطر على يوميّات حياتنا، خاصّة بعد إنتشار الهواتف الذكيّة الموصولة بالشّبكة العنكبوتيّة التي تسمح للمتلقّي فرصة الوصول لأيّ محتوى أو مادّة إعلاميّة أو معلومة أو خبر بكبسة زرّ واحدة، وبأقلّ تكلفة ممكنة.

من هنا، وبعيدا عن الخوض في غمار التّعريفات والمصطلحات، سوف أسلّط الضوء في المساحة المتبقيّة من مقالي هذا على دور الإعلام بشكل عام في معركة طوفان الأقصى، والإعلام الرقميّ او الإلكترونيّ بشكل خاص، والإنتصارات التي حقّقها محور المقاومة على العدوّ الإسرائيليّ وآلة إجرامه، وحرب الإبادة التي يمارسها بحق المدنيّين العزّل من أطفال، ونساء، وشيوخ فلسطينيّين في غزّة العزّة، وتشكيل رأي عام عالميّ مناهض لوحشيّة وإجرام الصّهاينة، بعدما كادت تكون القضيّة الفلسطينيّة أشبه بالمنسيّة عالميّا، وإذ في السّابع من تشرين أوّل/ أكتوبر، بساعة واحدة على توقيت المقاومة الفلسطينيّة، وعلى الهواء مباشرة يقلب مجاهدوها السّحر على السّاحر، ويغيّرون كلّ المعادلات، ويبدّلون كلّ السّيناريوهات والمكائد التي كانت تحضّر للشعب الفلسطينيّ، ولغزّة، وللمقاومة في غزّة، الأمر الذي جعل قيادة العدوّ الإسرائيليّ السياسيّة، والأمنيّة، والعسكريّة تصاب بصدمة أدّت إلى حالة من الجنون الذي تجلّى في القصف الوحشيّ، والتّدمير الذي لم يحدث مثله بعد الحرب العالميّة الثّانية، وارتكاب المجازر وحرب الإبادة التي لم يشهدها العالم إلّا خلال الإبادة الجماعيّة التي قامت بها الولايات المتّحدة الأميركيّة والتّطهير العرقيّ للسكّان الأصليّين لشمال القارّة الأميركيّة من الهنود الأميركيّين أو الهنود الحمر (تقدر إحدى الإحصائيات مقتل 4500 هندي أميركي على الأقل بين عامي 1849 و1870. ووثّق المؤرّخ المعاصر بنجامن مادلي أعداد قتلى الهنود الأميركيّين في ولاية كاليفورنيا بين عامي 1864 و1873، حيث قدّر عددهم في تلك الفترة بنحو 9400 وحتى 16 ألف قتيل. وتوفي معظم هؤلاء في أكثر من 370 مذبحة حسب وصفه)، هذه الإبادة للمدنيّين العزّل في غزّة تحدث في ظلّ صمت مطبق لكلّ ما من شأنه أن يوجّه أيّ إدانة للعدوّ الإسرائيليّ. هنا تبرز أهميّة دور الإعلام والصورة في نقل الحقيقة الكاملة عن إجرام العدوّ الإسرائيليّ، وارتكابه المجازر والدّمار أمام شاشات التّلفزة وعبر وسائل التّواصل الإجتماعيّ، والقصف الجنونيّ للمجمّعات السكنيّة، والمستشفيات، والمدارس، ودور العبادة دون أيّ وازع أو رادع، سوى تصدّي المجاهدين من فصائل المقاومة الفلسطينيّة في الدّاخل الفلسطينيّ، والدّعم المعلن لها من قبل حركات المقاومة من العراق وسوريا مرورا بلبنان وصولا إلى اليمن، والتي أعطت أهميّة كبرى للإعلام والصّورة من خلال نقل العمليّات على الهواء مباشرة، وإصدار البيانات المكتوبة والمرئيّة والمسموعة، حتى أضحت شخصيّة المتحدّث الرسميّ الإعلاميّ لكتائب الشّهيد عزّ الدّين القسّام، الجناح العسكريّ لحركة المقاومة الإسلاميّة - حماس أبو عبيدة، وشخصيّة النّاطق العسكريّ بإسم القوّات المسلّحة اليمنيّة العميد يحيى سريع من الشخصيّات التي كان لها الفعل المؤثّر في المعارك، والذي لا يقلّ تأثيره عن العمل العسكريّ الميدانيّ، كلّ هذا التفوّق الإعلاميّ قابله تخبّط، وضياع، وهزيمة للعدوّ الإسرائيليّ بجيشه وإعلامه، حتّى وصل به الأمر لمواجهة الحقيقة التي ينقلها الإعلام إلى قطع الإنترنت أكثر من مرّة عن قطاع غزّة المحاصر أصلا، ومنع قناة الميادين - على سبيل المثال لا الحصر - من وصول بثّها إلى الضفّة الغربيّة وأراضي ال 48 المحتلّة، وبعدها إلى اغتيال الصّورة من خلال استهداف وقتل الصحافيّين والإعلاميّين في غزة وجنوب لبنان، حتى بلغ عدد الشّهداء من الصّحافة والإعلام عتبة الخمسين شهيدا، بالإضافة إلى ارتفاع الأصوات من داخل الكيان الموقّت التي تندّد بالحرب على قطاع غزّة، وتشكّك بجدواها، وتحذّر من مغبّة الوقوع في الشراك ذاتها التي وقع بها جيش العدوّ إبّان عدوان تموز 2006 على لبنان، والتي مُنيّ على خلفيّتها بشرّ هزيمة على أيدي مجاهدي المقاومة الإسلاميّة في لبنان.

في سياق متصّل، لا بدّ من الإشارة والإضاءة على النّصر الإعلاميّ الذي حقّقته المقاومة الفلسطينيّة أثناء عمليّة تبادل الأسرى التي جرت خلال الهدنة بعد ثمانية وأربعين يوما على العدوّان، والذي تجلّى في الإستعراض الأمنيّ لمجاهدي القسّام وخروجهم من غير مكان لتسليم الأسرى من المدنيّين الإسرائيليّين، ودحض كلّ مزاعم وزيف ادّعاءات قادة العدوّ الإسرائيليّ الإعلاميّة بسيطرة الجيش على شماليّ قطاع غزّة، بالإضافة إلى المشاهد التي نقلت للرأي العام حسن معاملة وتعاطف المجاهدين مع الأسرى، في دليل واضح على رفعة أخلاق مجاهدي المقاومة الفلسطينيّة في التّعامل مع أسرى العدوّ الإسرائيليّ من المدنيّين، حيث تعتبر هذه المشاهد المصوّرة نصرا إعلاميّا آخر يسجّل للمقاومة على الكيان المؤقّت، مقارنة بسوء تعامله مع الأسرى والأسيرات الفلسطينيّين في سجونه ومعتقلاته، وهذا دليل إضافيّ على همجيّة، وتوحشّ، وإجرام، وضرب الكيان الصهيونيّ المؤقّت بعرض الحائط كلّ القوانين والمواثيق الدوليّة، والشّرائع الإنسانيّة التي تحدّد طرق التّعامل مع الأسرى والمعتقلين، وتكفل أمنهم وسلامتهم داخل السّجون والمعتقلات.

بالإضافة إلى ما تقدّم، تجدر الإشارة إلى الدّور الإعلاميّ الذي يلعبه محور المقاومة ووحدة السّاحات من المقاومة الإسلاميّة في العراق، وحركة أنصار الله في اليمن، مرورا بالمقاومة الإسلاميّة في لبنان، وذلك من خلال المواد التي تعمل قنواتها الإعلاميّة على بثّها بمشاركة وتكامل مع الإعلام الحربيّ الخاص بها، ونشر كافّة العمليّات التي يشنّها مجاهدوها على نقاط تموضع جنود جيش الإحتلال الإسرائيليّ على الحدود الشماليّة مع جنوب لبنان، وتحصيناته، ودشمه، وتقنيّات التجسّس والرّصد والمراقبة لديه، وثكناته العسكريّة، ومواقعه المنتشرة على طول الشّريط الحدوديّ مع شماليّ فلسطين المحتلّة، إضافة إلى الحرب النفسيّة والإعلاميّة التي يتحكّم بزمامها وبأدقّ تفاصيلها أمين عام حزب الله السيّد حسن نصر الله، من خلال ​سياسة​ الصّمت القاتل للعدوّ التي اعتمدها السيّد نصر الله أوّل سبعة وعشرين يوما على العدوّان، والذي اعتبر بحسب المحلّلين أنّه من أهم الأسلحة النّفسيّة والإعلاميّة التي تُستعمل في الحروب لزيادة إرباك العدوّ، وضياعه، وتخبّطه في عدم معرفة ما يفكّر به قائد المقاومة. والجدير ذكره في هذا السياق ما وعد به أمين عام حزب الله السيّد حسن نصر الله العدوّ في إحدى خطاباته بأنّه في أيّ حرب مقبلة سوف يشهد العالم مباشرة على الهواء هزيمة الجيش الإسرائيليّ، ومصارع جنوده، وتدمير آليّاته ومدرّعاته، وهذا ما شهدناه بالفعل طيلة أيام طوفان الأقصى، وبذلك يتجلّى النصر الإعلاميّ على العدوّ الإسرائيليّ بأبهى صوره ومظاهره.