منذ السابع من تشرين الأول الماضي، تاريخ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، وطبول الحرب تُقرَع في المنطقة بأسرها، وإن تفاوتت احتمالاتها بين الفينة والأخرى، حيث ترتفع تارةً، وتنخفض تارةً أخرى، في ظلّ مساعٍ حثيثة لتجنّب سيناريو "الحرب الشاملة"، التي يتوقعها كثيرون استنادًا إلى مبدأ "وحدة الساحات" الذي لطالما روّجت له بعض القوى والجهات.

لكنّ هذا السيناريو عاد ليتصاعد هذا الأسبوع بشكلٍ غير مسبوق، مع وصول التصعيد إلى الذروة، ليس على خط الحرب على غزة، التي يُحكى كثيرًا عن بدء العدّ العكسي لانطلاق المرحلة الثالثة منها، بدفعٍ من الولايات المتحدة بشكل خاص، ولكن أيضًا على خط العديد من "الجبهات" التي شهدت على "سخونة لافتة"، منها "الجبهة اللبنانية" التي امتدّت إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، مع اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروري.

وفيما أثار اغتيال العاروري في "عمق" الضاحية الكثير من التساؤلات، ولا سيما أنّه كسر برأي كثيرين كلّ "قواعد الاشتباك" المعمول بها، بل تجاوز "الخطوط الحمراء" إن جاز التعبير، جاءت التفجيرات الدموية في إيران لتطرح المزيد من علامات الاستفهام، ولو تبنّاها تنظيم "داعش"، قبل أن يصل التصعيد إلى العراق، مع استهداف أحد مقرّات "الحشد الشعبي" شرقي العاصمة بغداد، في رسالة بدت معبّرة، وقد حملت توقيع الولايات المتحدة هذه المرّة.

وجاء اشتعال هذه الجبهات دفعة واحدة متزامنًا مع استمرار "السخونة" على خط الجبهتين المفتوحتين أصلاً منذ أسابيع طويلة، سواء في جنوب لبنان بين "حزب الله" والجيش الإسرائيلي، أو في البحر الأحمر مع الحراك الحوثي اللافت أو ما تسمّى بـ"حرب السفن"، ما يطرح السؤال بجدية: هل بات من الممكن الحديث عن حرب شاملة في الأفق؟ وهل ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ مثل هذه الحرب باتت بالفعل "حتميّة"؟!.

من الحادثة "الخطيرة" التي شهدتها الضاحية الجنوبية لبيروت هذا الأسبوع، مع عمليّة الاغتيال التي تعرّض إليها نائب رئيس المكتب السياسي في حركة حماس صالح العاروري ورفاقه من المسؤولين في كتائب القسام، ينطلق العارفون ليتحدّثوا عن "مرحلة جديدة" في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة، لا تعبر حدود القطاع المُحاصَر فحسب، ولكن تتجاوز الكثير من قواعد الاشتباك، التي كانت سارية حتى الأمس القريب.

ومع التأكيد على "خطورة" الحادث، وهو الأول من نوعه بهذا الحجم وهذه الخطورة منذ حرب تموز من العام 2006، ولو سجّلت الأعوام اللاحقة لها بعض الخروقات في الضاحية وغيرها، يلفت العارفون إلى أنّه يأتي "متسقًا" مع المرحلة الثانية من الحرب التي يدفع الأميركيون باتجاهها، من خلال استبدال القصف الهمجي على غزة، بعمليات مركّزة تستهدف قيادات حماس وسائر فصائل المقاومة، في أيّ مكان، بما في ذلك خارج قطاع غزة.

وفيما يلاحظ العارفون أنّ الإسرائيليين سبق أن هدّدوا بضرب قادة حركة حماس وغيرها في أيّ مكان من العالم، ولا سيما أنّ الكثير منهم "لاجئون" في دول عربية وأجنبية، ويشيرون إلى أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو سبق أن سمّى العاروري بالاسم، ضمن "بنك الأهداف"، ثمّة من يضع هذه العملية في سياق محاولة "تعويض" الفشل في غزة، عبر تسجيل "انتصار ما" في سياق الحرب المفتوحة منذ أكثر من ثلاثة أشهر.

في سياق "الرسائل النارية" نفسها، يضع العارفون التطورات "الدراماتيكية" التي سُجّلت هذا الأسبوع، من إيران إلى العراق، وكأنّ هناك من يريد أن يوجّه رسالة مفادها أنّ "وحدة الساحات" التي لطالما روّج لها محور الممانعة والمقاومة، يمكن أن تتحقّق فعلاً، ولكن في الاتجاه المعاكس، بمعنى أنّ المعسكر الأميركي الإسرائيلي قد حدّد "أهدافه" بشكل واضح، ولا مانع لديه من المضيّ في عمليات "دقيقة" تستهدفه وتلحق به الخسائر الثقيلة.

لكن، على خطورة كلّ هذه الأحداث "الساخنة"، والتي تكاد تكون غير مسبوقة بحجمها، يؤكد العارفون أنّ كل ما تقدّم لا يعني أنّ ثمّة "حربًا شاملة" في الأفق بالفعل، أو أنّ الحرب الإقليمية أصبحت "حتمية" كما يروّج البعض، وذلك للعديد من الأسباب والاعتبارات، من بينها أنّ كلّ الأطراف لا تزال تتعامل مع الأمور بـ"حسابات مضبوطة"، إن جاز التعبير، وهي حسابات حضر "طيفها" حتى في عملية اغتيال العاروري، وما أعقبها.

فبالعودة إلى عملية الاغتيال، التي قرأها كثيرون للوهلة الأولى على أنّها "إعلان حرب"، وأدّت بشكل مباشر إلى "حبس أنفاس"، كانت لافتة "المقاربة الموضوعية" لهذه الحادثة، سواء من الجانب الإسرائيلي، أو حتى من جانب "حزب الله"، فالأول لم يحرص على عدم تبنّي العملية علنًا وجهارًا فحسب، وإن احتفى بها، ولكنه ذهب أبعد من ذلك، لحدّ "تحييد" كل من الحكومة اللبنانية و"حزب الله" عن الأهداف، وحصرها بالجانب الفلسطيني.

وعلى الرغم من أنّ هذا "التحييد" لا يبدو مقنعًا بالنسبة للبنانيين، وتحديدًا لقيادة "حزب الله"، باعتبار أنّ استهداف الضاحية الجنوبية لوحده يستوجب "ردّة فعل"، فإنّ كلام الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله جاء ليكرّس "حدود" الردّ والمقاربة، فهو مع توعّده بالردّ، أوحى بأنّ هذا الرد سيكون على طريقة كل العمليات السابقة "مدروسًا وموزونًا"، بحيث لا يوصل إلى الحرب، التي رمى بكرتها في الملعب الإسرائيلي، على أن يصبح القتال متى نشبت بلا ضوابط.

ولعلّ ما يسري على عملية الضاحية، يسري أيضًا على سائر "الجبهات"، حيث يقول العارفون إنّ الحرب الشاملة تبقى بعيدة، انطلاقًا من المعادلة القائلة بأنّ الحرب تحتاج إلى طرفين، والمشكلة لا تكمن في أنّهما غير متوافرين، ولكن لأنهما يتفقان على ما يبدو، وحتى إثبات العكس، على عدم الرغبة في الحرب في الوقت الحالي، فإسرائيل لا مصلحة لها بتوسيع الحرب في غمرة انشغالها بغزة، فيما يكتفي الفريق الآخر بـ"المساندة"، من دون الانزلاق إلى المواجهة.

لا يعني ما تقدم أنّ احتمالات الحرب غير موجودة بالمُطلَق، خصوصًا أنّ طبولها تُقرَع منذ السابع من تشرين الأول الماضي، وأنّ الانزلاق إليها يبقى واردًا في أيّ لحظة، خصوصًا مع التصاعد الدراماتيكي في العمليات والعمليات المضادة، لكنّه يعني أنّ حساباتها دقيقة، وأنّ أحدًا لا يبدو "متحمّسًا" للغوص فيها، من دون "سبب موجب" يتخطّى على ما يبدو الحرب المستمرّة في غزة، على خطورتها ووحشيّتها!.