عندما نذكر المجامع المسكونيَّة في الكنيسة لا نكون نتكلَّم فقط على العقائد واستقامة الرأي والقوانين والشرائع، بل أيضًا نكون نتكلَّم على أناس أضحوا أيقونات حيَّة قبل أن يُكتَبوا أيقونات بالألوان. هذا لأنَّهم بعيشهم للكلمة الإلهيَّة أصبحوا أناجيل حيَّة وامتلأوا من الروح القدس.

مِن هؤلاء الَّذين تألَّهوا بالنعمة الإلهيَّة القدِّيس أثناسيوس الكبير الَّذي كان بطل مجمع نيقية، المجمع المسكونيِّ الأوَّل الَّذي انعقد في العام 325م.

إسم أثناسيوس يوناني ومعناه: «لا موت»[1]. ذكرى القدِّيس أثناسيوس خالدة في الكنيسة لأنَّه أوَّلًا اتَّحد بالإله الَّذي لا يموت، القائم أبدًا، ألا وهو الربُّ يسوع المسيح، الواحد في الجوهر مع الآب والروح القدس، وثانيًا لأنَّه دافع باندفاع كبير عن الإيمان المستقيم الَّذي أخذناه من الربِّ يسوع مباشرة، بواسطة الرسل القدِّيسين، وانتقل من جيل إلى جيل كوديعة إيمانيَّة إلهيَّة. هذا الإيمان أساسه التجسُّد الإلهيُّ ووحدانيَّة الثالوث القدُّوس.

الهرطقة في وقتها والَّتي تنفي ألوهة يسوع، انتشرت بقوَّة مع آريوس، واجتاحت الكنيسة. آباء كثُر وقفوا ضدَّها، فالمجمع المسكونيُّ الأوَّل ضمَّ 318 أسقفًا مثَّلوا الكنيسة جمعاء، شرقًا وغربًا.

كان أثناسيوس وقتها شمَّاسًا ورافق بطريركه ألكسندروس رئيس أساقفة الاسكندريَّة. كان أثناسيوس لولب المجمع بحقٍّ، يحاجج الهراطقة ويفحمهم، ويشدِّد الأساقفة ويوضِّح. كان فعلًا سدًّا منيعًا في وجه كلِّ انحراف. والجميع رأوا صلابة إيمانه، وشهدوا لفطنته ومعرفته وتقواه.

أصبح لاحقًا بطريرك الاسكندريَّة، ولم تتوقَّف الحرب الشعواء ضدَّه من أتباع أريوس الَّذي حرمه المجمع. فقد استطاعوا أن يستميلوا الأباطرة الَّذين تعاقبوا، وكانت نتيجة التآمر ضدَّه أن نُفِيَ خمس مرَّات، لدرجة أنَّه قضى من أسقفيَّته حوالي 20 سنة من أصل 46 سنة في المنفى. مع ذلك لم يتراجع ولم يستسلم، لدرجة أنَّه عندما قالوا له: «ألم تتعب يا أثناسيوس؟ العالم كلُّه ضدّك»، أجاب: «أثناسيوس ضدّ العالم».

هناك أمران مهمَّان جدًّا لا بدَّ من التوقُّف عندهما:

الأمر الأوَّل، صحيح أنَّ هرطقة آريوس انتشرت معه، ككاهن منحرف، ولكن ليس هو مَن اخترعها. بل هي كانت موجودة قبله بمئات السنين. هي في عمقها عدم استيعاب العقل البشريِّ للتدبير الإلهيِّ: كيف للخالق أن يتأنَّس ويعيش بين البشر؟ ألا يتدنَّس وهو المنزَّه؟ أليس هذا تشريكًا في الألوهة؟ كيف الثالوث القدُّوس واحد؟ كيف الله يُصلَب ويموت؟ وأسئلة كثيرة غيرها.

الأمر الثاني، هرطقة آريوس مستمرَّة.

باختصار شديد، لا يمكن لتجسُّد الله أن يدنِّسه لأنَّه الله، لأنَّه لا يعود الأقوى بل يكون هناك أقوى منه!

أمَّا لماذا تجسَّد فلأنَّه مصدر المحبَّة، أي من فيض محبَّته، والمحبَّة لا تعيش منعزلة، بل تتشارك مع الآخرين. فكيف بالأحرى مع الإنسان الَّذي خلقه الله على صورته كشبهه. فالإنسان في أصله ليس دنسًا، بل أيقونة مدعوَّة لتحقيق الشبه الإلهيِّ بالتنقية وبحرِّيَّة كاملة. والله أعطى الإنسان كلَّ الإمكانيَّة ليتألَّه.

الله أحبَّنا فأتى إلينا، وأصبح إنسانًا مثلنا ليُفهمنا قيمتنا، ويفتح بصيرتنا على كرامتنا الإلهيَّة المعطاة لنا. وبكلِّ بساطة، إذا سُئلنا: «هل يستطيع الله أن يتجسَّد؟» لأجبنا: «بالطبع يستطيع لأنَّه الله، ولا شيء يستطيع أن يمنعه من ذلك». إذًا، هل نقول له: «أنت لم تتجسَّد لأنَّنا لا نستطيع أن نفهم ذلك بعقلنا المخلوق»؟! وإذا فعلنا ذلك، لأصبحنا نحن الآلهة.

وإذا أيضًا سُئلنا: «هل تجسُّدُ الله يُنقص من قيمته؟»، لأجبنا أيضًا: «بالطبع لا، لأنَّ قيمته إلهيَّة، والمحبَّة عندما تعطي ذاتها لا تنقص». إذًا علينا أن نقترب من التدبير الإلهيِّ بمنطق المحبَّة اللامتناهية والباذلة.

أمَّا في ما يخصُّ الثالوث القدُّوس الواحد في الجوهر، فالأمر ليس من اختراع الإنسان، بل هو ما أعلنه الربُّ بنفسه. آيات كثيرة تشير إلى ذلك، منها قوله: «الَّذي رآني فقد رأى الآب» (يوحنَّا 14: 9). من يجرؤ على أن يتفوَّه بهكذا كلام إلَّا الابن الحقيقيُّ والوحيد؟ وهذا ما جعل المجمع اليهوديَّ يحكم على يسوع بالموت، إذ اعتبر جوابه لرئيس الكهنة اليهوديِّ تجديفًا واضحًا لا التباس فيه، ومساواة مع الله، إذ عندما سأله: «أأنت المسيح ابن المبارَك؟»، قال يسوع: «أنا هو» (مرقس 14: 61-62). وأعطاه آية بأنَّه سيأتي على السحاب في المجيء الثاني. فمزَّق رئيس الكهنة ثيابه.

وللتوضيح، كلمة «ابن» المستعملة عن يسوع تشير إلى الطبيعة الإلهيَّة الَّتي هي للآب والروح القدس. وعندما نقول: «يسوع مولود غير مخلوق»، فهذا يعني أنَّه كان موجودًا وتجسَّد، ولم يُخلَق من العدم. والولادة هي خارج الزمن، إذ لا يوجد زمن كان الآب والروح القدس موجودين فيه والابن غير موجود. ونستطيع أن نأخذ الشمس وشعاعها وحرارتها مثلًا، فهم ثلاثة وفي الوقت نفسه واحد، ولا يوجد أيُّ فصل زمنيٍّ بينهم. كذلك نور الشمعة ونورها وحرارتها.

وليس من تشريك مع الألوهة لأنَّ يسوع هو إله قبل أن يتجسَّد، وفي تجسُّده، وبعد أن تجسَّد. ولم يطرأ على ألوهيَّته أيُّ تغيير أو نقصان أو مزج.

وبقدر ما نقترب من الربِّ ونتمعَّن بكلامه وأفعاله، نجده فريدًا وليس له مثيل. فهل نمزِّق ثياب قلبنا مثلما فعل قيافا، أم نصرخ مثل توما الرسول: «ربِّي وإلهي»!؟ (يوحنَّا 20: 28).

فالقدِّيس أثناسيوس استبسل بالدفاع لأنَّه كان يعيش ويصلِّي ما يقرأه في الكتاب المقدَّس وتعاليم الآباء الَّذين سبقوه. وقد اكتشف يقينًا عظمة محبَّة الفداء، مدركًا تمام الإدراك أنَّ يسوع مات على الصليب بطبيعته البشريَّة، وقام بسلطان طبيعته الإلهيَّة، لأنَّه شخص واحد.

عظيم هو تدبيرك يا ربُّ وعظيمة هي محبَّتُك.

إلى الربِّ نطلب.

[1]. Préfix a et Thanatos الموت