على الرغم من كثرة الحديث عن "فصل" جبهتي غزة ولبنان، لم يعد خافيًا على أحد أنّ مسار الأمور في الجنوب "مرتبط" عمليًا بمصير الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ولا سيما بعدما أعلن "حزب الله" بوضوح أنّ أيّ حديث عن مفاوضات لا ترجمة له قبل التوصّل إلى وقف شامل لإطلاق النار في قطاع غزة، وتوافق عليه فصائل المقاومة الفلسطينية، في ظلّ تهديدات إسرائيلية مضادة باحتمال توسيع الحرب ضدّ لبنان في أيّ لحظة.

في هذا السياق، تتّجه الأنظار إلى ما بات يسمّى بـ"هدنة رمضان"، في إشارة إلى الهدنة التي يُعمَل عليها في غزة لتدخل حيّز التنفيذ خلال شهر رمضان، والتي يبدو الكثير من الوسطاء "واثقين" بأنّها ستبصر النور، ولو أنّ معالمها لم تنضج بعد، كما أنّ أيّ مؤشّرات حقيقية لم تُرصَد على خطّها، في ظلّ استمرار المجازر الإسرائيلية، وآخرها مجزرة الرشيد المروّعة التي هزّت العالم، وقد استهدفت مدنيين يحاولون الحصول على مساعدات.

وعلى "الجبهة اللبنانية"، لا يبدو الأمر أفضل حالاً، فقد وسّع الإسرائيليون من نطاق عملياتهم في الأيام الأخيرة، حتى إنّ القصف بات يشمل كلّ المناطق التي يتواجد فيها "حزب الله"، بغضّ النظر عن قواعد الاشتباك التي أصبحت في خبر كان، وقد وصل قبل أيام إلى البقاع، وتحديدًا منطقة بعلبك، في تصعيد للعمليات دفع رئيس بعثة اليونيفيل وقائدها العام الجنرال أرولدو لاثارو ليقرع جرس الإنذار، متحدّثًا عن "تحوّل مقلق" في العمليات على الأرض.

وإذا كان الحديث عن احتمالات الحرب في لبنان سابقًا لهذا التحوّل "المقلق"، وقد بدأت التكهّنات بشأنه منذ فتح "حزب الله" الجبهة تضامنًا مع الفلسطينيين في الثامن من تشرين الأول، فإنّ علامات استفهام بالجملة تُطرَح عن المتغيّرات الحالية على وقع الحديث عن "هدنة رمضان"، فهل تكفي الأخيرة ليطمئنّ اللبنانيون إلى أنّ الحرب باتت بعيدة؟ وما حقيقة التلميحات الإسرائيلية عن جهوزية لاستغلال هدنة غزة، لتوسيع الهجوم في لبنان؟!.

قبل الحديث عن انعكاسات هدنة غزة على الواقع اللبناني المشتعل، والتي تنشط على خطّها أكثر من وجهة نظر، تتباين حدّ التناقض في التحليل والتفسير، قد يكون من المجدي السؤال عن "ظروف" هذه الهدنة، وما إذا كانت "جدية" فعلاً، أم أنّها تهدف لإحراج هذا الطرف أو ذاك كما يحاول البعض الإيحاء، علمًا أنّ بين المتابعين من يضع كلّ ما يُحكى في هذا الإطار في سياق "حرب نفسية" لم تنتهِ فصولاً، على الساحتين اللبنانية والفلسطينية على حدّ سواء.

بهذا المعنى، يقول العارفون إنّ "هدنة غزة" لم تُحسَم بعد، حتى يكون بالإمكان الذهاب إلى استنتاجات "يقينية" بشأن انعكاساتها المحتملة، ولو أنّ الوسطاء الدوليين يبذلون جهودًا واسعة لتصبح هذه الهدنة "تحصيلاً حاصلاً" مع بداية شهر رمضان على أبعد تقدير، علمًا أنّ ظروف هذه الهدنة تلعب دورًا محوريًا في تحديد شكل وحجم هذه التبعات، خصوصًا أنّ كلّ التسريبات بشأنها لا تصل أبدًا لحدّ الحديث عن "وقف شامل ودائم لإطلاق النار".

مع ذلك، بدأ الحديث يتصاعد عن انعكاسات هذه الهدنة إذا ما تمّ التوصّل إليها، على الساحة اللبنانية، حيث تبرز وجهتا نظر أساسيّتان، تنطلق الأولى من تجارب صفقات التبادل والهدنة السابقة، التي توقّفت بالتوازي معها العمليات على طول الحدود اللبنانية، وقد أوصل "حزب الله" رسائل واضحة إلى الأطراف المعنيّة، بأنّه سيوقف إطلاق النار عند أيّ هدنة، لكن بشرط أن يوقف الجانب الإسرائيلي بدوره إطلاق النار على الجانب اللبناني.

في المقابل، ثمّة وجهة نظر أخرى، تخشى أن يكون الجانب الإسرائيلي يحضّر لـ"التصعيد" في لبنان، تزامنًا مع "هدنة غزة"، وذلك لأكثر من سبب، من بينها أنّه سيكون قادرًا عندها "للتفرغ" أكثر للجبهة الشمالية، في ظلّ ضغوط يتعرّض لها من سكان المستوطنات الشمالية المهجَّرين من بيوتهم منذ أشهر، ومن بينها أيضًا محاولة استعادة ما فقده من "هيبة"، ومنع تكريس عرف يقول إنّ "حزب الله" هو من يفتح الجبهة ويقفلها ساعة يشاء.

ومع أنّ وجهة النظر هذه تجد الكثير من التفاعلات، خصوصًا أنّ الأكثرية في إسرائيل تؤيد هجومًا أوسع ضدّ "حزب الله"، لإيحاد "حل جذري" للتهديد الذي يمثّله على الحدود، فإن هناك من يعتبر أنّ مثل هذا الاحتمال يبقى "مؤجَّلاً"، أقلّه لما بعد انتهاء الحرب على غزة أو انتقالها إلى مرحلة مختلفة، ولا سيما أنّ الإسرائيلي يتجنّب منذ اليوم فرضية "وحدة الساحات"، وهو يدرك أنّ ما ينتظره في لبنان سيكون "أثقل" ممّا واجهه في غزة.

انطلاقًا من ذلك، يرى كثيرون أنّ ترقّب مسار المفاوضات قد يغلب على احتمالات التصعيد العسكري، أقلّه في هذه المرحلة، ولا سيما في ظلّ الحديث عن عودة مرتقبة للمبعوث الأميركي الخاص آموس هوكستين، وفق ما أعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، الذي سبق أن التقاه الشهر الماضي في قمّة ميونخ للأمن، "وفهم منه" أنه سيزور قريبًا، وأنّه سيكثّف من وتيرة هذه الزيارات في المرحلة المقبلة.

يعني ما تقدّم أنّ هوكستين ماضٍ في وساطته، التي يعوّل عليها كثيرون، باعتبار أنّه نجح سابقًا في تقريب وجهات النظر من أجل التوصل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية، وهو يطمح للعب الدور نفسه، وبالتالي الحصول على "تسهيلات" من الجانبين لتحقيق "إنجازٍ موازٍ"، وقد يكون ذلك ممكنًا بعد الوصول إلى هدنة في غزة، ولو أنّ مثل هذه الهدنة قد لا تكون كافية برأي كثيرين، بالنظر إلى التفاعلات الممكنة.

إلا أنّ الثابت وفق ما يقول العارفون، أن وساطة هوكستين، التي تأتي بعد تراجع لافت في الوساطات الدولية وزيارات الموفدين إلى بيروت، فسّرها البعض بصورة سلبية، قد تحصل على وقع "تصعيدٍ ما"، ولا سيما أنّ هناك من يعتقد أنّ إسرائيل ستسعى لرفع وتيرة الهجوم قبل أيّ مفاوضات جدّية، في محاولة منها لتحسين أوراقها التفاوضية، علمًا أنّ تقريرًا أميركيًا تحدّث قبل يومين عن "عملية برية" قد تقدم عليها، بمعزل عن حصول اتفاق من عدمه.

في النتيجة، لا يبدو أنّ "هدنة رمضان" ستشكّل نهاية لـ"حفلة الجنون" المستمرّة منذ أشهر، وقد عبّرت عنها مجزرة الرشيد المروّعة هذا الأسبوع خير تعبير. فالهدنة التي لا تزال تصطدم ببعض التحفّظات والإشكاليات، لا ترقى حتى الآن لتكون "وقفًا دائمًا لإطلاق النار"، ما يعني أنّها قد لا تكون سوى "وقت مستقطع" بين مرحلتين من الحرب، ولو أنّ هناك من يعتقد أنّ العودة إلى الحرب بشكلها الحالي على الأقلّ، قد لا تكون ميسّرة بعد رمضان!.