فيما يتصدّر الملف الأمني الاهتمامات في البلاد، على وقع التصعيد المستمرّ في الجنوب، والذي يشهد ارتفاعًا غير مسبوق في وتيرة ونوع العمليّات، وسط تهديداتٍ إسرائيلية بلغت ذروتها بعملية عسكرية مكثّفة ضدّ ​لبنان​، وعلى وقع الاهتزاز الأمني الذي فجّرته حادثة الهجوم على السفارة الأميركية في عوكر، مع ما ولّدته من استنفار وتأهّب، يحضر الاستحقاق الرئاسي بمبادرات يحلو للبعض إدراجها في خانة "رفع العتب"، بصورة أو بأخرى.

آخر هذه المبادرات كانت تلك التي أطلقها "​الحزب التقدمي الاشتراكي​"، والتي قيل إنّها جاءت بدفعٍ من المبعوث الرئاسي الفرنسي ​جان إيف لودريان​، الذي غادر لبنان "خائبًا" بعد زيارته السريعة التي جاءت بعد تأجيل خمسة أشهر كاملة، لم تكن كافية على ما يبدو ليلمس أيّ تقدّم، أو حتى أيّ تغيير في المواقف المُعلَنة للقوى السياسية، وذلك على الرغم من الوساطات التي كانت نشطة من حراك "سفراء الخماسية"، إلى مبادرة "كتلة الاعتدال".

وككلّ المبادرات التي سبقتها، أعطيت مبادرة "الاشتراكي" أهمية خاصة عند طرحها في الأوساط السياسية، إذ ثمّة من أدرجها في إطار جو المفاوضات القائم في المنطقة، والذي يُقال إنّه وصل إلى مرحلة "حاسمة"، ستتطلب وجود رئيس لبناني، وثمّة من ربطها بحراك النائب السابق ​وليد جنبلاط​، الذي زار في الآونة الأخيرة كلاً من فرنسا وقطر، وهما المهتمّتان بشكل خاص بالملف اللبناني، والساعيتان لإحداث "خرق ما" على خطّه.

إلا أنه أيضًا، وكسائر المبادرات التي سبقتها، لم تكد المبادرة تنطلق عبر جولة كتلة "اللقاء الديمقراطي" على مختلف الفرقاء، في محاولة لإيجاد قواسم مشتركة، أو لتقريب وجهات النظر، حتى قيل إنّها "انتهت عمليًا"، انطلاقًا من "التصلّب" الذي أبداه مختلف الأطراف، خصوصًا من موضوع الحوار أو التشاور، الذي تقوم عليه كلّ المبادرات أساسًا، فهل سقطت مبادرة "الاشتراكي" في الفخّ، فأخفقت تمامًا كما أخفق غيرها؟!.

في المبدأ، يقول العارفون إنه، حتى لو كان صحيحًا أنّ مبادرة "الاشتراكي" تتقاطع في العناوين، وربما في المضمون، مع كلّ المبادرات التي سبقتها، استنادًا إلى معادلة "حوار أو تشاور ثمّ جلسة انتخابية"، إلا أنّ ثمّة ما يميّزها، ويقوم على شخص "الفريق المبادِر"، إن جاز التعبير، باعتبار أنّ "الاشتراكي" يتموضع فعليًا "في الوسط"، ولديه "حيثيّه الخاصة" التي تجعله قريبًا من الطرفَين المتنازعين، بل تمنحه ربما نوعًا من "المَوْنة" عليهما.

ويوضح العارفون أنّ معسكر "حزب الله" وحلفائه منفتح على "الاشتراكي" للعديد من الأسباب والاعتبارات، من بينها العلاقة "الممتازة" التي تربط النائب السابق وليد جنبلاط برئيس مجلس النواب ​نبيه بري​، ولكن أيضًا الموقف المساند الذي اتخذه "البيك" منذ فتح جبهة لبنان في الثامن من تشرين الأول الماضي، حيث تقدّم جنبلاط على بعض حلفاء الحزب في الدفاع عن خياراته، بل إنّه قال صراحةً إنه يؤيد فتح الجبهة، ويرى فيها جدوى خلافًا لما يقوله بعض الحلفاء.

في المقابل، ليس خافيًا على أحد أنّ لجنبلاط "حيثيّته" أيضًا لدى فريق المعارضة، الذي يعتبره للمفارقة "جزءًا لا يتجزأ" منه، ولا سيما أنّ تصويت كتلة "اللقاء الديمقراطي" كان في معظم جلسات الانتخاب الرئاسية التي عقدت لصالح المرشحين المدعومين من المعارضة، من ميشال معوض إلى جهاد أزعور، وبالتالي فإنّ هذه المعارضة تريد "حفظ الودّ" مع "الاشتراكي" منعًا لانتقاله إلى دعم رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، وهو ما ألمح إليه في أكثر من مناسبة.

ولأنّ "الحزب التقدمي الاشتراكي" سبق أن لعب دور "بيضة القبان"، وأتقن العبور بين "الألغام" إن جاز التعبير، خصوصًا في مرحلة الانقسام العمودي بين معسكري ما كان يُعرَف بالثامن والرابع عشر من آذار، ولو أنّه كان من "ثوابت" ما سُمّيت بـ"ثورة الأرز"، راهن كثيرون على أنّه قادرٌ على النجاح في المبادرة حيث أخفق الآخرون، بالحدّ الأدنى عبر إقناع هذا الطرف أو ذاك، بتقديم "تنازلات شكليّة" يمكن أن تؤسّس للجلوس على الطاولة على الأقلّ.

لكن، منذ اليوم الأول لانطلاق جولة "اللقاء الديمقراطي" على الأفرقاء، والتي انطلقت مع "القوات اللبنانية" تحديدًا، بدأت الرهانات تتراجع، ما ربطه كثيرون بـ"الفيتو" الذي تتمسّك به الأخيرة على كلّ أشكال الحوار المُقترَحة، في وقتٍ كان لافتًا أنّ المحسوبين على "الاشتراكي" نفسه سعوا إلى التقليل من التوقعات، عبر "توسيع" إطار المبادرة، والقول إنّها غير محصورة بالرئاسة، بل تشمل نقاش الأوضاع على كل المستويات، بما في ذلك الوضع في الجنوب.

يقول العارفون إنّ هذه النتيجة كانت متوقّعة، فـ"الاشتراكي" لم يخرج بفكرة جديدة يمكن أن تلقى القبول، بل أعاد "صياغة" كلّ المبادرات السابقة بـ"نَفَس جديد"، إن جاز التعبير، فهو سعى إلى إقناع المعارضة بالذهاب إلى الحوار الذي ترفضه شكلاً ومضمونًا، وإلى إقناع داعمي رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية بالذهاب إلى "خيار ثالث"، وهو ما يرفضه هؤلاء أيضًا شكلاً ومضمونًا، على الأقلّ قبل الجلوس على الطاولة، ليُبنى بعد ذلك على الشيء مقتضاه.

ومع أنّ بعض التسريبات حملت "مؤشّرات" إلى "ليونة" لمسها "الاشتراكي" في جولته لدى العديد من أطراف المعارضة، التي اعتبر بعضها حديث رئيس مجلس النواب عن "تشاور" لا "حوار" تقدّمًا يمكن البناء عليه، فإنّ العارفين يقولون إنّ ما سمعه من رئيس حزب "القوات" سمير جعجع، وما عبّر عنه الأخير صراحةً عبر الإعلام، أجهض المبادرة، وأكّد أنّ الأزمة لا تزال عالقة عند عنق الزجاجة نفسه، ربطًا بالحوار والتشاور وما يمتّ لهما بصلة.

وهنا، يلفت العارفون إلى أنّ الفريقَين يصرّان على استكمال لعبة "تقاذف كرة المسؤولية"، فحلفاء "حزب الله" الذين ينفون وجود أيّ "رابط" بين حرب غزة وأزمة الرئاسة السابقة لها، يرمون بكرة المسؤولية بالمُطلَق عند "القوات اللبنانية" التي تتصلّب في رفضها للحوار والتفاهم، على الرغم من أنّه بات واضحًا أنّه مدخَل "إلزامي" لانتخاب الرئيس، وأنّ أي فريق غير قادر بمفرده، ومن دون التوافق مع الآخرين، في إيصال مرشحه إلى قصر بعبدا.

في المقابل، تقول أوساط "القوات" إنّ المشكلة في أنّ الفريق الآخر يريد تكريس معادلة "الحوار يسبق الانتخاب"، في "بدعة" تخالف القانون والدستور، وتشدّد على أنّ "القوات" لم تكن يومًا ضمن التشاور، وقد مارسته أخيرًا في عدّة مناسبات، وهي منفتحة عليه داخل مجلس النواب، "وعلى هامش" جلسة الانتخاب، لكنّها لن تقبل به على طريقة "طاولات الحوار" التي سبق أن جُرّبت، علمًا أنّ إصرار رئيس مجلس النواب على رئاسته يثير برأيها الكثير من الشكوك.

في النتيجة، يصرّ المحسوبون على "الحزب التقدمي الاشتراكي" على أنّ "فرص النجاح" لم تستنفد عليها، وعلى أنّ الوقت لا يزال مبكرًا للحكم على المبادرة، لكنّ الثابت يبقى أنّ أيّ "خرق" سيبقى متعذّرًا، طالما أنّ الطرفين المتنازعين لا يزالان يديران الأزمة بعقلية "الغالب والمغلوب"، ويرفضان تقديم أيّ "تنازلات" ستُسجَّل عليهما، ولو كان يمكن أن تفضي إلى إنجاز استحقاق بات القفز فوقه، يهدّد "مستقبل البلد"، كما ينبّه المجتمع الدولي!.