قبل أن تبدأ كتلة "الاعتدال" الجولة الثانية من مبادرتها الرئاسية التي استبشر كثيرون خيرًا بها، قبل أن تصطدم بالتحفّظات والشروط من هنا وهناك، كان سفراء المجموعة الخماسية بشأن لبنان يفعّلون حراكهم بين الأفرقاء، ليخلصوا إلى رسم "خارطة طريق" تستند في جوهرها إلى مبادرة "الاعتدال"، التي تستند بدورها إلى مبادرات أخرى، في مقدّمها المبادرة الحوارية التي أطلقها رئيس مجلس النواب نبيه بري منذ الأيام الأولى للبازار الرئاسي.

وقبل أن يبلور سفراء "الخماسية" خريطة الطريق التي رسموا خطوطها العريضة في بيانهم الختاميّ، كان المبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان يحطّ في بيروت في زيارة سريعة لم تدم أكثر من يومين، قيل إنّه كان يتوخّى من خلالها ترجمة "خلاصات" السفراء، ووضع آليّات تنفيذية للمتابعة، إلا أنّها انتهت على "خيبة" ترجمت بما تسرّب عن "تنبيه" المسؤول الفرنسي لمن التقاهم، بأنّ "مستقبل لبنان السياسي" أضحى مهدَّدًا.

وقبل أن يصل لودريان إلى باريس، لإعداد تقريره الذي كان يفترض أن يُعرَض على القمّة بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والفرنسي إيمانويل ماكرون، كان "اللقاء الديمقراطي" يدخل على خطّ المبادرات الرئاسية، فيعلن عن مسعى لتقريب وجهات النظر، مستندًا في ذلك إلى موقعه "الوسطي" الذي يمكن أن يعطيه "امتيازًا" لدى الطرفين، وسط تسريبات تحدّثت عن "قوة دفع" فرنسية وقطرية أسهمت في تفعيل المحرّكات "الاشتراكية".

وقبل أن تنهي كتلة "اللقاء الديمقراطي" جولتها على الافرقاء، وتصل إلى خلاصاتها، قرّر رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل أن "يجرّب حظّه"، فأطلق مبادرة رئاسية أخرى من بكركي، فاتحًا الباب أمام العديد من علامات الاستفهام، فما هي العبرة من هذه "العجقة" من المبادرات، التي تتقاطع كثيرًا في الشكل والمضمون، وضمن العناوين نفسها تقريبًا؟ هل يندرج الأمر في خانة التكامل، أم الفوضى؟!.

لعلّ اللافِت في "عجقة" المبادرات الرئاسية التي لا تنتهي، أنّها بمجملها تعبّر عن مضمونٍ شبه "موحّد"، ولو اختلفت صياغاته بين مبادرة أو أخرى، وهو يقوم بالدرجة الأولى على فكرة الحوار التي قامت عليها أولى المبادرات التي طرحها رئيس مجلس النواب نبيه بري منذ الأيام الأولى للفراغ الرئاسي، ولو استعيض عن كلمة "حوار" بمصطلحات تدور في حقله المعجمي من نوع "التشاور"، أو "اجتماع العمل"، وما إلى هنالك.

فمن مبادرة بري، إلى "الاعتدال"، مرورًا بـ"الخماسية"، وصولاً إلى "الاشتراكي" وحتى "التيار الوطني الحر"، يبدو الطرح شبه موحّد، ولو تغيّرت بعض التفاصيل التي لا تقدّم أو تؤخّر الكثير، بدءًا من الحوار أو المبادرات الذي لا يختلف فيه سوى "مدّته" ربما، ولو تقاطعت المبادرات أيضًا على "محدوديّتها"، وصولاً إلى الجلسة البرلمانية التي تعقبه، ولو اختلفت مفاهيمها بين "جلسة انتخابية مفتوحة" أو "جلسات متتالية بدورات عدّة".

وإذا كان هناك من يراهن على أنّ اختلاف طبيعة "صاحب المبادرة" قد يكون له تأثيراته على المواقف والتموضعات، كما فعل "الاشتراكي" مثلاً، مستندًا إلى أنّ المعارضة تعتبره "جزءًا منها"، فيما يرتاح حلفاء "حزب الله" لمواقفه الأخيرة، فإنّ الثابت وفق ما يقول العارفون، أنّ التجربة أثبتت حتى الآن، أنّ كلّ هذه الرهانات لا تبدو في مكانها، في ضوء "التصلّب" الذي يبديه كل طرف، خلافًا لادّعاء "المرونة والليونة".

بهذا المعنى، فإنّ "عجقة المبادرات" لم يكن لها مفاعيلها على المواقف، فالتشاور مثلاً، بكلّ صيغه وأشكاله وعناوينه، مرفوضٌ من رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، المتمسّك بمقاربته حول "الحوار حصرًا على هامش جلسة الانتخاب"، الأمر الذي يتعارض بالمطلق مع رؤية رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي يقول جهارًا إنّه لن يدعو إلى أيّ جلسة انتخابية، قبل الجلوس على طاولة الحوار والتشاور في المقام الأول.

إزاء هذا "الاستعصاء" في الموقف إن جاز التعبير، يصبح السؤال مشروعًا عن "جدوى عجقة" المبادرات هذه، والمُرتَجى منها في كلّ الأحوال، فما الذي يميّز كلّ مبادرة عن غيرها من الناحية العملية؟ ولماذا يعتقد كلّ طرف "مُبادِر" أنه سينجح حيث أخفق غيره؟ ما حقيقة أنّ الأمر لا يعدو كونه "بحثًا عن دور" من هذا الطرف أو ذاك، بدل الجلوس في موقع "المتفرّج"؟ وهل يمكن فعلاً لهذه "العجقة" أن تؤدي إلى تصاعد "الدخان الأبيض" عاجلاً أم آجلاً؟.

في هذا السياق، يتوقف البعض عند حديث الوزير السابق جبران باسيل مثلاً قبيل إطلاق مبادرته، وهو أحدث المنضمّين إلى "ركب" المبادرات الرئاسية، أنّ طرحه لا يأتي "بديلاً" عن "الاعتدال" و"الاشتراكي"، وإنما في معرض "التكامل" معهما، علمًا أنّ هناك من يذهب أبعد من ذلك ليتحدّث عن "طموح" لدى باسيل بتكريس تموضع "وسطي" من خلال هذه المبادرة، قد ينجح في نهاية المطاف في فرض "الخيار الثالث" على مختلف الأطراف.

لكنّ مبدأ "التكامل" هذا يثير بدوره الكثير من علامات الاستفهام، إذ لا يُعرَف حتى الآن كيف يمكن أن يكون مفيدًا، طالما أنّ العناوين هي نفسها، تتكرّر بين مبادرة وأخرى، وطالما أنّ مبرّرات الرفض هي نفسها، أو بالحدّ الأدنى الشروط والشروط المضادة، ولا سيما أنّ الأمور تبقى عالقة في "عنق الزجاجة" نفسه، الذي يمثله الاشتباك المتفاقم بين رئيس مجلس النواب ومن يمثل من جهة، ورئيس حزب "القوات" ومن يمثل من جهة ثانية.

وإذا كان صحيحًا أنّ باسيل طرح ما يمكن اعتباره "فكرة جديدة"، بالحديث عن تشاور لا يشكّل "عرفًا"، فيتحوّل إلى "بدعة" تسبق بالضرورة كلّ استحقاق انتخابي، وبالتلميح إلى احتمال أن تغيب "القوات" عنه مثلاً، على أن تشارك في الجلسة الانتخابية التي تعقبه، فإنّ الصحيح أيضًا أنّ كلّ هذه الأفكار تبقى حتى الآن أقرب إلى "الفوضى"، بغياب أيّ "خريطة طريق" جدّية، وربما بغياب "الإرادة الحقيقية" لانتخاب الرئيس.

لا شكّ أن المأزق الحقيقي المرتبط بالانتخابات الرئاسية يبقى في "استسهال الفراغ" كما قال باسيل نفسه، ولو أن هناك من يحمّله كما غيره المسؤولية عن ذلك، علمًا أنّ الرجل متهَم في بعض الأوساط بـ"إجهاض" مبادرة رئيس مجلس النواب في وقت سابق، و"يستنسخها" اليوم بأسلوب آخر، وهو ما يردّ عليه المحسوبون على "التيار الوطني الحر" بأنّ الظروف اختلفت، وأنّ "التنازلات" مطلوبة من كلّ الأطراف للوصول إلى تفاهم.

في النتيجة، الثابت أنّ كثافة المبادرات، سواء عبّرت عن تكامل حقيقي، أو مثّلت فوضى فعليّة، وسواء كان القيّمون عليها صادقين في مسعاهم، أم باحثين عن استعراض، أو ربما عن دور يلعبونه، لا تجدي نفعًا، إذا لم تقترن بجدّية تبدو غائبة بانتظار نضوج بعض الظروف والمعطيات، الأمر المؤجّل حتى إشعار آخر، ولو جاهر الجميع بفرضية "فصل الرئاسة عن غزة"، غير الواقعية برأي كثيرين!.