منذ أعلن "حزب الله" فتح جبهة جنوب لبنان في الثامن من تشرين الأول الماضي تضامنًا مع الشعب الفلسطيني الأعزل، في مواجهة العدوان الإسرائيلي الهمجيّ على غزة، لم يكد يمرّ أسبوع من دون أن يُطرَح معه السؤال حول إمكانية توسّع المعارك، والانزلاق إلى حرب واسعة، لدرجة أنّ عبارة "هل تتوسّع الحرب في لبنان؟" أصبحت من الكلمات المفتاحية الأكثر رواجًا على محرّكات البحث، وتصدّرت عناوين عشرات المقالات الصحفية والبرامج الحواريّة.

رغم ذلك، يبدو طرح السؤال نفسه، مع كلّ ما يحمله من إشكاليّات، هذا الأسبوع أكثر "جدّية" من أيّ وقتٍ مضى، ولا سيما أنّ الأمور تتصاعد بطريقة دراماتيكية على الجبهة الجنوبية، التي شهدت في الأيام الأخيرة تصعيدًا يكاد يكون غير مسبوق، خصوصًا بعد الهجوم المركّب الذي شنّه "حزب الله" على سلسلة من المواقع الإسرائيلية دفعة واحدة، والذي وُصِف بالأعنف لا منذ بدء المعارك بعد عملية "طوفان الأقصى"، ولكن منذ حرب تموز 2006.

وإذا كان التصعيد الذي شهدته الجبهة جاء بعد اغتيال إسرائيل "الحاج أبو طالب"، أو "القائد" طالب سامي عبد الله، والذي صُنّف أحد قادة الصف الأول في "حزب الله"، أو بالحدّ الأدنى القائد الأعلى رتبة الذي يتمّ استهدافه منذ الثامن من تشرين الأول، فإنّ هناك من يخشى أن يؤدّي إلى المزيد من "الفلتان"، ولا سيما أنّ ما جرى هذا الأسبوع شكّل "تجاوزًا" لكلّ قواعد الاشتباك، وربما الخطوط الحمراء المتعارف عليها، ولو كانت مُضمَرة وغير مُعلَنة.

ولعلّ أسطع دليل على ذلك يكمن في التسريبات الإعلامية الإسرائيلية التي ذهبت لحدّ الحديث عن "توصية" تقدّم بها المستوى العسكري في إسرائيل من القيادة العسكرية، بإنهاء عملية رفح في أقرب وقت ممكن، من أجل "التقدم بالهجوم" على لبنان، تكريسًا لمعادلة "لبنان بعد رفح" التي حُكي الكثير عنها في السابق، فهل يمكن القول إنّ سيناريو "الحرب" حُسِم بانتظار تحديد التوقيت، أم أنّ التصعيد سيبقى "مضبوطًا" بشكل أو بآخر؟.

في المبدأ، لا شكّ أنّ التطورات الميدانية المتسارعة على جبهة جنوب لبنان هذا الأسبوع شكّلت تصعيدًا غير مسبوق، وهو يأتي وفق ما يقول العارفون ضمن "عملية تراكمية" تتّسم بـ"تصاعد تدريجي" من الجانبين اللذين يتبادلان الرسائل "النارية" إن جاز التعبير، وهي الرسائل التي يُخشى أن تخرج عن السيطرة في أيّ وقت، فتؤدي تلقائيًا إلى الانزلاق في حربٍ مدمّرة، قد لا يكون الطرفان راغبَين بها فعليًا.

في هذا السياق، يضع العارفون أداء "حزب الله"، الذي بدأ يتّخذ شكلاً "أكثر قوة" في الآونة الأخيرة، من حيث الهجوم، خصوصًا بعد بدء العملية العسكرية في رفح، في خانة "ردّ الفعل" على الاعتداءات الإسرائيلية المتمادية، وذلك عملاً بمبدأ "العين بالعين والسنّ بالسنّ"، فالحزب الذي فتح المعركة في الثامن من تشرين الأول، تحت عنوان "إسناد غزة" ليس إلا، أدخل معادلة "إن صعّدتم صعّدنا"، رفضًا لمحاولة الجانب الإسرائيلي "الاستفراد" بالساحة.

من هنا، فإن رفع الحزب لمستوى ووتيرة الهجوم في الآونة الأخيرة، مع إدخاله أسلحة وتكتيكات جديدة، يدخل في خانة توجيه رسائل "الجهوزية"، وربما "الردع" للإسرائيلي، تمامًا كالهجوم المركّب الأخير، الذي يقول العارفون بأدبيّات الحزب إنّ الإسرائيلي هو الذي فرضه، عندما اعتقد أنّ مضيّه بسياسة الاغتيالات يمكن أن يمرّ مرور الكرام، علمًا أنّ عدم رغبة الحزب بالذهاب إلى الحرب، لا يعني "تفريطه بدماء شهدائه"، وفق ما يقول هؤلاء.

في المقابل، يأتي التصعيد الإسرائيلي بحسب ما يقول العارفون على وقع "المأزق" الذي تعيشه حكومة بنيامين نتنياهو في الداخل، في ظلّ الضغوط التي تزداد، والتي بلغت ذروتها مع الاستقالات في صفوف مجلس الحرب، وتحديدًا استقالة بيني غانتس، علمًا أنّ من بين الأمور الخلافية في إسرائيل كيفية التعامل مع جبهة لبنان تحديدًا، خصوصًا بعد ما اعتُبِر "تآكلاً لقوة الردع"، في ضوء الحرائق التي تسبّبت بها صواريخ "حزب الله" في الشمال.

وإذا كان التصعيد الإسرائيلي يأتي في جانب منه ليعبّر عن "ضيق" داخل إسرائيل من إصرار "حزب الله" على ربط الجبهة بالحرب المستمرّة على غزة، ورفضه الخوض في أيّ مفاوضات قبل إنهاء الحرب، وهو ما "يُحرِج" الإسرائيليين، إذا ما كرّسوا صورة أنّ "حزب الله" يفتح الجبهة ويقفلها كيفما شاء، فإنّ هناك من يضع الأمر استنادًا إلى ذلك، في خانة "رفع الأسقف" لجرّ الحزب إلى طاولة المفاوضات، بالقوة إن تطلب الأمر ذلك.

لا يعني ما تقدّم أنّ الحرب الواسعة بين "حزب الله" وإسرائيل باتت تحصيلاً حاصلاً، فكلّ المعطيات تؤشّر إلى أن التصعيد يبقى تحت سقف هذه "الحرب" وليس فوقه، ليس بالضرورة لوجود "فيتو" خارجي، وتحديدًا أميركي على صلة بحملات الانتخابات الرئاسية، يمكن لإسرائيل أن تقفز فوقه، على أهميته، ولكن لغياب "المصلحة"، في ظلّ تسريبات تشير إلى أنّ إسرائيل ترى أنّ الاستمرار بسياسة الاغتيالات الحالية قد يكون "أكثر جدوى".

بهذا المعنى، ثمّة من يقول إنّ إسرائيل قد لا تكون راغبة فعليًا في الانغماس في حربٍ أخرى في المنطقة، وهي التي باتت في "شبه عزلة دولية"، والتي تعرف في الوقت نفسه أنّ الحرب في لبنان ستكون "أقسى" عليها من غزة، للكثير من الاعتبارات والأسباب، لكنّها تريد أن تترك "كرة المبادرة" في جيبها، بحيث تكرّس استمرار الوضع في الجنوب على ما هو عليه، حتى لو تمّ التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، خلافًا لما يروّجه "حزب الله".

أما "حزب الله" فيؤكد العارفون بأدبيّاته، أنّ "الحرب الواسعة" ليست هدفه، وهو ما يكرّره قادته وعلى رأسهم أمينه العام السيد حسن نصر الله في كلّ المناسبات، وأنّه كما فتح الجبهة "إسنادًا لغزة" في المقام الأول، فهو سيعتبر أنّ "المهمّة أنجِزت" بمجرد الوصول إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار في غزة، لكنّه مع ذلك، يجزم بأنّه "جاهز للحرب إذا ما فُرِضت عليه"، علمًا أنّ نوعية التكتيكات التي يعتمدها أخيرًا تحمل بين طيّاتها رسائل واضحة للإسرائيلي.

وبين هذا وذاك، ثمّة من يقول إنّ الطرفَين يسيران "بين الألغام" بصورة أو بأخرى، إذ إنّ استمرار التصعيد على شكله الحالي، ولو "تحت سقف الحرب"، لا يمكن أن يشكّل "ضمانة" بعدم خروج الأمور عن السيطرة في أي لحظة، يخشى كثيرون أن تكون قد اقتربت عمليًا، رغم الوساطات والجهود الدولية التي يبدو واضحًا أنّ "زخمها" يرتفع، ولكن أيضًا أنّها قد لا تعني شيئًا، متى دقّت ساعة الحرب، ولعلّ نموذج غزة تحديدًا أبلغ من أي تعبير.

في النتيجة، تشير التقديرات إلى أنّ التصعيد على خطّ جبهة الجنوب سيستمرّ في التصاعد التدريجي، من دون أن يوصل حتمًا إلى الحرب، وذلك استنادًا إلى أنّ سيناريو الحرب الشاملة ليس في مصلحة الطرفين، فضلاً عن كونه "منبوذًا" من المجتمع الدولي. لكنّ الثابت أيضًا هو أنّ "المراوحة" لا يمكن أن تكون حلاً، فما بات يصطلح على تسميته بـ"مأزق الشمال" إسرائيليًا يتطلّب "حلاً جذريًا"، وفق منطقهم على الأقلّ، وهنا الخشية الأكبر!.