اندمجت عبارة "الام الحنون" مع فرنسا بالنسبة الى لبنان، وهي عبارة تدلّ على عدم تخلّيها عن لبنان، ليس من باب الاهتمام، بل من باب التمسّك به على غرار غيره من الدول التي كانت مستعمرة، وبقيت على صلة وثيقة به منذ عقود من الزمن. ولكن، ما حصل يوم الاحد الفائت، شكّل صدمة كبيرة للفرنسيين اولاً، ولبقية دول العالم ثانياً، علماً ان صاحب الفضل في كل ما حصل هو الرئيس الفرنسي الحالي ايمانويل ماكرون، الذي يسجّل له انه عرف كيف يمنع اليمين المتشدد من الوصول الى السلطة بعد ان كانت الطريق شبه معبّدة له للسيطرة على مقاليد الحكم على اثر نتائج الجولة الاولى من الانتخابات.
ما فعله ماكرون، هو انه افرغ كل ما في جعبته من مبادرات وخدع سياسية لقطع الطريق امام منافسته الرئاسية السابقة مارين لوبن في تحقيق انتصار حاسم كان من شأنه ان ينهي حقبة ماكرون وتياره السياسي. ولكن، ماذا كان الثمن؟ في خطوة غير معتادة في فرنسا، تشتّتت الاصوات بعد ان طبّق ماكرون واليساريين مفهوم "انا واخي ضد ابن عمي، وانا وابن عمي ضد الغريب"، وبالتالي بات اليمين المشتدّد هو الغريب وتمّ الاتفاق عليه فانسحب عدد كبير من المرشحين، واقترع الناخبون في اعلى نسبة تم تسجيلها منذ نحو 20 سنة، ما ساهم في حصر الاصوات بمرشحين اقل تمكنوا من تعزيز فرص فوزهم مقابل مرشحي اليمين.
اليوم، وصلنا الى معادلة "لا غالب ولا مغلوب"، فلا احد يملك العدد الكافي لحسم المعركة، والاخطر ان الاطراف لا تملك رؤية موحّدة للتعاطي مع المشاكل المطروحة، والتحالفات التي تم نسجها، كانت انتخابية، اي انها مرحلية انتهت مع اعلان نتائج التصويت. هذا الوضع اشبه بالوضع اللبناني، ومن سيكتب من اليوم فصاعداً عن فرنسا خلال الفترة المقبلة، سيكون وكأنه يكتب عن لبنان، فهل يمكن القول ان ماكرون "لبنن" فرنسا؟ من المبكر الوصول الى هذا الاستنتاج، ولكن مع غياب رئيس مجلس نواب مشابه لرئيس حركة "امل" نبيه بري، فإنّ الغموض هو سيد الساحة الفرنسية، وستبدأ المشاكل بالحكومة، فليس الجميع راضياً عن اعادة الثقة بغبريال اتال لتشكيل الحكومة العتيدة، والمشاركة ستكون اصعب اذا ما كان الهدف ارضاء هذا وذاك من التيارات والاحزاب السياسية، اذ ليس اصعب من التعاطي مع اناس يعتبر كل واحد منهم نفسه منتصراً ويملك رؤيته وافكاره الخاصة، التي يحاول اقناع الآخرين بها من دون ان يقتنع بما يُعرض عليه من افكار في المقابل. رمى ماكرون قنبلته الوسطية على امل ان تكون الحل ويتم النظر اليها على انها كذلك، ولكنه في الواقع عمل على تشتيتها واصبحت ضائعة على الساحة تماماً كاليمين واليسار، وسيكون البحث عن حلّ بالغ الصعوبة.
ولعل الحذر الذي ابدته المانيا من نتائج الانتخابات، على الرغم من ارتياحها لعدم فوز اليمين المتشدد، يعبّر عن حال القارّة الاوروبية التي غالباً ما كانت فرنسا تضطلع بدور صلة الوصل بين دولها، فإذا بها اليوم في حاجة الى من يلعب هذا الدور بين مواطنيها واحزابها. من المؤكد ان فرنسا لن تنهار، ولكن من المهم معرفة السبيل الذي سيتم اتباعه للخروج من هذا المأزق، فهل ستأخذ فرنسا برأي لبنان في هذا المجال نظراً لخبرته الكبيرة في هذا الحقل، ولضياع تياراته واحزابه منذ الاستقلال وحتى اليوم؟ وهل من نصيحة سيقدّمها بري الى الفرنسيين وتعليمهم كيفيّة "تدوير الزوايا" و"اخراج الارانب من القبعة"، ام سيكتفي لبنان بالمشاهدة؟.