"حفاظًا على ما تبقّى من ودّ"... عبارة بسيطة استخدمها رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد، للهروب من التعليق على أحد تصريحات رئيس الحكومة نواف سلام، الذي اعتبر أنّ "عصر تصدير الثورة الإيرانية انتهى، وأعلن أنّه "لن يسكت على بقاء أيّ سلاح خارج سيطرة الدولة"، فنالت من الأصداء وردود الفعل ما لم تنله حتى الهتافات المسيئة لرئيس الحكومة من قبل جماهير الحزب، حين وصفته على الهواء مباشرةً بـ"الصهيوني".
كان يمكن أن يُفهَم كلام رعد بوصفه انعكاسًا لامتعاض "حزب الله" من حديث رئيس الحكومة المتكرّر عن السلاح، على الرغم من أنّ الحزب سبق أن دعا على لسان أمينه العام الشيخ نعيم قاسم إلى "شطب" هذه السرديّة من القاموس، لكنّ المفارقة أنّ الغمز من قناة سلام جاء من قصر بعبدا، وبعد "الإشادة" برئيس الجمهورية جوزاف عون، الذي يكرّر في كلّ تصريحاته، أنّ العام الحالي سيكون عام "حصر السلاح بيد الدولة"، مع ما يعنيه ذلك من نزع سلاح الحزب.
وسط ذلك، لفت الانتباه دخول رئيس مجلس النواب نبيه بري على الخط، حين قال "مبتسمًا" في تصريح لصحيفة "الجمهورية"، ردًا على سؤال عن توصيفه للعلاقة مع رئيس الحكومة: "بسَخّن منسَخّن، ببَرّد منبَرّد"، وهو ما فُهِم "تضامنًا" مع الحزب في وجه رئيس الحكومة، أو ربما عكس حالة من "التقاطع" بين ركني "الثنائي الشيعي" في مقاربة العلاقة مع سلام، الذي يدرك الجميع أنّه لم يكن "مرشح الثنائي" أساسًا، حتى لو انضمّ إلى حكومته فيما بعد.
وعلى الرغم من محاولات للتقليل من وقع تصريح رعد أولاً، وضبط العلاقة بين "حزب الله" وسلام، بموجب "وساطات" قيل إنّ رئيس الجمهورية نفسه لعب دورًا في بلورتها، وتُرجِمت عمليًا بتصريح للنائب أمين شرّي، نفى فيه حصول أيّ "قطيعة" مع الرجل، مؤكدًا أنّ قنوات التواصل لا تزال فاعلة، يبدو واضحًا أنّ ثمّة "خلافًا" في الأفق، أو بالحدّ الأدنى "اختلافًا"، فما هي مآخذ الحزب على رئيس الحكومة، وهل تنفجر العلاقة بين الجانبين؟!.
في المبدأ، ليس سرًا أنّ العلاقة بين "حزب الله" ورئيس الحكومة لم تكن يومًا جيّدة أو متينة، حتى لو دخل الحزب إلى حكومة الرجل "مُكرَهًا" إن جاز التعبير، وليس خافيًا على أحد أن الحزب لم يكن مرتاحًا يومًا لدخول سلام إلى "بازار" رئاسة الحكومة، في مرحلة ما بعد الاحتجاجات الشعبية عام 2019، حتى إنّ من كانوا يريدون "استفزاز" الحزب، أو توجيه "رسالة" له، كانوا يعمدون إلى تسميته، بمن في ذلك "الحليف" جبران باسيل.
وليس سرًا أيضًا أنّ الحزب لم يكن مرتاحًا البتّة للطريقة التي وصل فيها سلام إلى السراي الحكوميّ هذه المرّة تحديدًا، وقد سبق للمحسوبين عليه أن وصفوها بـ"الانقلاب"، باعتبار أنّ الحزب دخل في "تسوية" انتخاب جوزاف عون رئيسًا للجمهورية، بناءً على "تفاهمات" قضت بإبقاء نجيب ميقاتي رئيسًا للحكومة، فإذا بالمعادلات تتغيّر بين ليلةٍ وضُحاها، فيخسر ميقاتي بالضربة القاضية، ويفوز سلام بأكثرية مطلقة أكثر من مريحة.
وإذا كان الحزب ترجم امتعاضه وغضبه في أكثر من محطة، بدءًا من التصريح الشهير الذي أطلقه رئيس كتلته النيابية إبان استشارات بعبدا، حين تحدّث عن غدر وإقصاء وتفكيك وشرذمة، وصولاً إلى مقاطعته الاستشارات غير الملزمة، فإنّ "انفتاحه" بعد ذلك عليه، من أجل الدخول في حكومته، لم يقف على ما يبدو صفحة "الصدام" مع الرجل، أقلّه في عيون الجماهير، التي لم تجد عيبًا مثلاً في وصفه بـ"الصهيوني"، على الهواء مباشرة.
وعلى الرغم من أنّ الحزب سارع حينها لإصدار بيان رسميّ يستنكر فيه هذه الهتافات، ويعتبر أنّها "تتعارض مع المصالح الوطنية فضلًا عن الأخلاق الرياضية، ولا تخدم مسار تعزيز الوحدة الوطنية والاستقرار الداخلي الذي يحتاج إليه البلد في مسيرة بناء الدولة والإصلاح"، فإنّ هناك من أصرّ على قراءتها بوصفها "رسالة مبطنة" إلى رئيس الحكومة، الذي لم يبدُ مقتنعًا بمضمون بيان الحزب، حين أبدى "عدم اكتراثه" بما سمعه من هتافات.
باختصار، يقول العارفون إنّ القصّة برمّتها تعكس "غياب الكيمياء" بين الجانبين، خصوصًا أنّ "لا شيء" يفسّر عمليًا هذه الحدّية في المقاربة، فسلام مثلاً كان رئيسًا لمحكمة العدل الدولية حين أصدرت حكمها "التاريخي" ضد إسرائيل، وهو في أدائه وأقواله لا يتخطّى رئيس الجمهورية ولا يزايد عليه، بل إن هناك من ينتقده ويلومه على ظهوره بمظهر "الملحق" بالرئيس، مع ما ينطوي على ذلك من التفريط بالصلاحيات الممنوحة له بموجب اتفاق الطائف.
هنا، يتحدّث العارفون عن "امتعاض" فضحته عبارة النائب رعد، أبعد من "شخص" رئيس الحكومة، خلافًا للكثير من التفسيرات والاستنتاجات، وهو "امتعاض" يرتبط بأداء الحكومة ككلّ، التي يرى الحزب، ولو كان جزءًا منها، أنها تتبنّى في مكان ما "دفتر الشروط" الغربية، ولا سيما الأميركية، وبالتالي تتنصّل من مسؤولياتها، وحتى من بيانها الوزاري، الذي لا يقرأ فيه معظم الوزراء سوى عبارة "حصر السلاح بيد الدولة".
قبل هذه العبارة، ثمّة الكثير من الأمور المتوجّبة على الحكومة، الواردة في بيانها الوزاري، وفق ما يقول العارفون بأدبيّات الحزب، ومنها ملفّ إعادة الإعمار، وهو الملفّ الذي لم تقدم الحكومة حتى الآن على أيّ خطوة ملموسة تُظهِر أيّ "جدّية" في مقاربتها، بحسب هؤلاء، وهو ما يدفعهم إلى "التشكيك بالنوايا"، انطلاقًا من السردية الغربية التي تربط هذا الاستحقاق المهمّ، بنزع السلاح، رغم أنّ الأمرين يفترض أن يكونا مختلفين.
صحيح أنّ هناك من يقول إنّ الحكومة قد لا تتحمّل هذه المسؤولية، فإعادة الإعمار تحتاج إلى مساعدات يربطها المجتمع الدولي بسلسلة من الإجراءات، من بينها الإصلاحات الاقتصادية، إضافة إلى ملف السلاح، من دون أن ننسى استهداف إسرائيل لأيّ محاولات للترميم وإعادة البناء، لكنّ العارفين بأدبيّات الحزب يقولون إن هناك دولاً جاهزة للمساعدة، لكنّ الحكومة اللبنانية لا تفتح المجال لذلك، برفضها إطلاق المسار حتى.
وبالتوازي أيضًا، لا يخفي المحسوبون على "حزب الله" استياءهم من بعض التصريحات التي يطلقها وزراء في الحكومة، على رأسهم وزير الخارجية يوسف رجّي، وهي تصريحات لا تخرج عن سياق البيان الوزاري فحسب برأي هؤلاء، ولكنها تصل في بعض الأحيان لحدّ "تبرير" الاعتداءات والخروقات الإسرائيلية اليومية للسيادة، وكأنّ اتفاق وقف إطلاق النار أعطى فعلاً إسرائيل ما أسمتها بـ"حرية الحركة"، خلافًا لأيّ منطق.
هكذا، يبدو أنّ "ما تبقّى من ودّ" من جانب "حزب الله" لرئيس الحكومة، وفق تصريح النائب محمد رعد، يخفي بين طيّاته امتعاضًا واستياءً من أداء الحكومة ككلّ، حكومة يقول بعض نواب الحزب صراحةً إنّها "تتنصّل من مسؤولياتها"، ويتّهمونها بعدم "الالتزام" بما وعدت به في بيانها الوزاري. مع ذلك، فإنّ أغلب الظنّ أنّ الحزب لن يلجأ إلى تصعيد يؤدّي إلى تفجير العلاقة، ما يعني أنّ هذا الامتعاض سيبقى "محصورًا ومضبوطًا"، أقلّه في المرحلة الحالية، وحتى إشعار آخر!