في ليلة ​عيد الأضحى​ المبارك، مع ما تحمله من "رمزية" دينيّة واجتماعية على أكثر من مستوى، ومن دون مقدّمات أو سابق إنذار، اكتشفت إسرائيل "خطرًا وجوديًا" عليها في الداخل ال​لبنان​ي، وتحديدًا في ​الضاحية الجنوبية​ لبيروت، أو ربما في هذه الليلة بالتحديد، وصلتها معلومات استخباراتية عمّا ادّعت أنّه "مصنع مسيّرات" يواصل "​حزب الله​" العمل عليه، في خرق "فاضح" ل​اتفاق وقف إطلاق النار​، الذي تخرقه إسرائيل بصورة يومية منذ لحظة إبرامه.

هكذا، وفيما كان الناس يستعدّون للعيد ويجهّزون له، كلٌ على طريقته، خرج المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي ​أفيخاي أدرعي​ عليهم بما وصفه بـ"البيان العاجل والمهمّ"، الذي ضمّنه "إنذارًا بالإخلاء" شمل مجموعة من المباني في مناطق متفرّقة من الضاحية الجنوبية لبيروت، دفعة واحدة، ما أحدث تلقائيًا حالة من الذعر والبلبلة، استمرّت حتى ساعات الفجر الأولى، وقد عزّزها بإنذار آخر لمناطق في الجنوب، الذي بدأ الناس بالتوافد إليه منذ الخميس للاحتفال بالعيد.

صحيح أنّ هذا الهجوم لم يكن الأول من نوعه على الضاحية الجنوبية لبيروت، بل ربما الرابع منذ ما سُمّي باتفاق وقف إطلاق النار، المبرَم في تشرين الثاني الماضي، وقد شرّعت إسرائيل لنفسها خرقه، بذريعة ومن دونها، لكنّه كان بلا شكّ "الأوسع والأخطر" على الإطلاق، وقد استعاد المواطنون معه ذكريات ليالي الحرب الدموية الطويلة، التي كانوا يعجزون فيها عن النوم، وهم يتتبّعون الضربات والغارات الإسرائيلية المتتالية والمباغتة.

ولعلّ "خطورة" هذا العدوان، مقارنة بالخروقات الإسرائيلية السابقة، هي التي دفعت المسؤولين إلى المسارعة لإصدار بيانات الاستنكار، وفي مقدّمهم رئيس الجمهورية جوزاف عون، كما رئيس الحكومة نواف سلام، فضلاً عن رئيس مجلس النواب نبيه بري، وقد تقاطعوا على وصف ما جرى بالاستهداف المتعمّد للبنان، والاستباحة السافرة للاتفاق، فكيف يفسَّر التصعيد المستجدّ، في الشكل والمضمون، وهل تكفي الإدانة أو تنفع فعلاً في مواجهته؟!.

في المبدأ، لا شكّ أنّ التصعيد الإسرائيلي ليلة عيد الأضحى لا يشبه أيًا من الخروقات الإسرائيلية لاتفاق وقف إطلاق النار، في الشكل أولاً، وبمعزل عن الدوافع والأسباب المُعلَنة والمُبطَنة، وحتى بمعزل عن الرسائل السياسية التي أرادت تل أبيب أن توجّهها، محوّلة بيروت ودماء أبريائها ومدنيّيها إلى مجرّد "صندوق بريد" في هذا السياق، وفق ما جاء في بيان رئيس الجمهورية، الذي أكّد أنّ لبنان "لن يرضخ" لمثل هذه الأساليب.

فإذا كان صحيحًا أنّ إسرائيل أضافت الضاحية إلى "بنك أهدافها" في مرحلة "وقف إطلاق النار"، إلى جانب الجنوب والبقاع، منذ حادثة إطلاق الصواريخ، التي اتخذت منها ذريعة لضربها للمرة الأولى، فإنّ الصحيح أيضًا أنّ طريقة استهداف الضاحية هذه المرّة لا يمكن تصنيفها على أنّها مجرّد "خرق عادي"، كما جرى في المرّات السابقة، حينما كان يتمّ استهداف مبنى محدّد، أو موقع معيّن، وينتهي المرّة، خلافًا لما جرى هذه المرّة باستهداف أربع مناطق في آنٍ واحد.

ولعلّ "توقيت" التصعيد الإسرائيلي ينطوي بدوره على نوع من الخطورة، لا يجوز القفز فوقه، أولاً بتزامنه مع عيد الأضحى، وكأنّ إسرائيل تعمّدت "تنغيص" فرحة العيد على اللبنانيين، أو أنّها أرادت أنّ تقول إنّه "يُحظَر" عليهم أن يفرحوا أو يحتفلوا، لما يمثّله ذلك من "صمود"، علمًا أنّ ذلك يعبّر في مكانٍ ما عن "حقد دفين" لطالما اعتمدته إسرائيل ضدّ لبنان، حين كانت تضربه مثلاً عند بداية كلّ موسم صيفي، لضرب أيّ فرصة للسياحة أو النهوض.

وثمّة من يضيف إلى "رمزية" التوقيت، أبعادًا سياسية، باعتبار أنّ الاستهداف جاء بعيد الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى بيروت، والتي أعلن منها عن رغبة بلاده في فتح "صفحة جديدة" مع لبنان، تقوم على مبدأ الاحترام المتبادل، وكأنّ إسرائيل أرادت أن ترفع "الفيتو" في وجه أيّ عودة إيرانية إلى بيروت تحت أيّ عنوان، وهي التي تسبّبت سابقًا بقرار بمنع هبوط الطائرات الإيرانية في مطار بيروت، تحت طائلة التهديد باستهدافه.

إلا أنّ خطورة الاستهداف تزداد، في ضوء المعلومات المسرّبة عن طريقة التعامل مع ​الجيش اللبناني​، الذي حاول "ردع" الاعتداء الإسرائيلي، من خلال الكشف على المباني المهدّدة، عملاً بما نصّ عليه اتفاق وقف إطلاق النار، وبالتنسيق مع الجهات الضامنة له، وهو دخل بعضها بالفعل حيث لم يجد الأسلحة المفترضة، لكنّه قوبل برفض إسرائيلي حازم، ترجم بغارات تحذيرية، اضطر للانسحاب على إثرها، بعدما فضح "البروباغندا" الإسرائيلية.

وفي السياق نفسه، يقول العارفون إنّ هذا التصعيد جاء ليشكّل "صفعة" للحكومة اللبنانية قبل "حزب الله"، ولجهودها من أجل احتوائه في مكانٍ ما، ولا سيما أنه أتى بعد ساعات قليلة على إعلان لرئيسها نواف سلام عن تفكيك الجيش لأكثر من 500 موقع ومخزن سلاح في المنطقة الممتدّة جنوب نهر الليطاني، وفي وقتٍ يصرّ مع رئيس الجمهورية على رفع عنوان "حصر السلاح بيد الدولة" عنوانًا، بل شعارًا للحكومة وللعهد ككلّ.

وعلى الرغم من بعض التسريبات الإسرائيلية عن "إبلاغ" الولايات المتحدة مسبقًا بالهجوم على لبنان، لا يستبعد العارفون أن يكون عنوان الهجوم على الضاحية، وعلى لبنان، "رسالة" إلى الولايات المتحدة نفسها، وهو ما ألمح إليه رئيس الجمهورية أساسًا، خصوصًا أنّ العلاقات تبدو في "أسوأ أحوالها" بين إسرائيل والإدارة الأميركية، ولا سيما بعد الإعلان عن "تنحية" المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، الذي اعتبرت إسرائيل أنّه لا يصبّ في صالحها.

لكن، ماذا بعد كلّ ذلك؟ هل سيكتفي لبنان بإصدار بيانات الإدانة والاستنكار، وقد صدرت سريعًا، ويقرنها بالدعوات للدول الضامنة لاتفاق وقف إطلاق النار، من أجل الضغط على إسرائيل للالتزام بمقتضياته؟ وماذا عن موقف "حزب الله" الذي لا يخفى على أحد، أنّ إسرائيل تسعى لإحراجه، خصوصًا أمام بيئته الحاضنة، وربما لاستدراجه من أجل الذهاب إلى "جولة ثانية" من القتال، بعد سقوط خطاب التلويح بالخيارات الأخرى، تحت شعار "للصبر حدود"؟.

حتى الآن، يستبعد العارفون أيّ تغيير في طريقة التعاطي مع الاستهدافات الإسرائيلية، سواء من جانب الدولة اللبنانية، أو من جانب "حزب الله"، الذي ليس في وارد الخوض في أيّ معركة مع الجانب الإسرائيلي، ولو بدا في وضع لا يُحسَد عليه أمام بيئته الحاضنة، ويشدّدون على أنّ التركيز سيبقى منصبًّا على معالجة الأمر بالسبل الدبلوماسية، علمًا أنّ هناك من يعتقد أنّ "الجنون الإسرائيلي" قد يعني أنّ الضغط بدأت يؤتي ثماره، في مكانٍ ما.

في النهاية، يبدو الثابت من العدوان الإسرائيلي الأخير أنّ إسرائيل تحاول أن تكرّس نفسها، "صاحبة القول الفصل" في لبنان، فهي ثبّتت ما تسمّيه "حرية حركة" لا يسائلها عليها ولا يردعها فيها أحد، وهي أكّدت أنها تستطيع أن تضرب متى تشاء وكيفما تشاء، من دون أن تكترث بأيّ ملابسات أو ذرائع. لكن، أيّ تبعات لكلّ ذلك على الجبهة اللبنانية التي تبدو اليوم مهدَّدة أكثر من أيّ وقت، في الاشتعال من جديد، وهل ينجح الوسطاء في تجنّب الحريق بصورة نهائية؟!.