في ​الشرق الأوسط​، لا نهاية واضحة لأيّ معركة، ولا هدنة تصمد إن لم تُبنَ على ميزان قوى حقيقي، يُفرض بالقوة. هكذا كان الحال دائما، وهكذا تبدو الصورة اليوم بين ​إيران​ و​إسرائيل​. ليست المواجهة الحالية مجرد تصعيد عابر، بل واحدة من أشد حلقات معركة كسر الإرادات تعقيداً، معركة يختلط فيها الدم بالصواريخ، والرسائل العسكرية بالحسابات السياسية الإقليمية والدولية.

منذ اللحظة الأولى، رفعت إيران سقف موقفها بلا تردّد. هي ليست في موقع الباحث عن حرب، لكنها أيضا ليست في موقع المساومة على حقوقها النووية والصاروخية، أو القبول بأن يُفرض عليها واقع جديد بقوة النار. موقفها كان واضحاً، كرّرته كل العناوين السياسية والعسكرية الصادرة من طهران، أنه إذا توقف العدوان، تتوقف الردود، وإذا استمر الضغط، فالمنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات.

إسرائيل، التي تغنّت طويلًا بأنها صاحبة القرار الأول في تحديد قواعد الاشتباك، اصطدمت هذه المرة بواقع مغاير. العدوان الذي خُطط له أن يُربك الداخل الإيراني، ويفرض شروط تفاوض قسرية، ويقلب النظام المعادي لإسرائيل تحوّل إلى مأزق سياسي وميداني متصاعد. فشل العدوان في ساعاته الأولى كان كفيلاً بتظهير هشاشة أمنها، رغم كل ما روّجته من تفوق استخباراتي وعسكري.

في المقابل، الأميركيون يحاولون اليوم، عبر ترامب وغيره، تصوير أنفسهم كوسطاء يُمسكون بخيوط اللعبة، يقدّمون مخرجاً سياسياً يُرضي الجميع، ويُعيد الهدوء إلى المنطقة من دون خسائر كبرى. لكن خلف هذا الخطاب، تُدار لعبة الابتزاز والتصعيد السياسي، حيث لا تفاوض حقيقي يُفتح إلا على وقع الضربات، ولا تهدئة تصمد إلا إذا شعر الجميع أن كلفة الاستمرار بالحرب باتت أعلى من أي مكاسب ممكنة.

من هنا، تبرز عقدة الهدنة المرتقبة، فهي ستكون بطبيعة الحال هدنة هشّة، محكومة بميزان ردع قلق، وتفاهمات غامضة، لأن لا أحد يملك حتى الآن ضمانة صمودها. إسرائيل تحتاج إلى وقف موقت للنار لترتيب صفوفها، والولايات المتحدة بحاجة إلى تهدئة تُخفف ضغط الملفات المتداخلة من غزة إلى لبنان، إلى مفاوضات فيينا المجمّدة، وربما تفكر بإرساء نوع من الاستقرار بالشرق الاوسط، وهنا ستكون النقطة الأساس التي تحدد مستقبل الصراع.

أما إيران، فتُدرك تماماً أن أي وقف للعمليات لا يعني نهاية المعركة، بل مجرد استراحة يُعاد خلالها ترتيب الحسابات. ولذلك، موقفها الصلب لم يتبدّل: لا مفاوضات تحت النار، ولا وقف شامل قبل ضمانات حقيقية، لا ورقية ولا إعلامية، بل ضمانات تُترجم على الأرض، تُعيد رسم المعادلات وفق ميزان ردع جديد يحفظ لها مكاسبها، ويمنع تكرار لعبة الابتزاز العسكري، وهي ستكون جاهزة لحمل إنجازاتها العسكريّة على أي طاولة تفاوض.

لكن ما بعد الهدنة، إذا صمدت فعلاً، لن يكون كما قبلها. المنطقة وقواعد الاشتباك تغيّرت، وإيران أثبتت أنها لم تخرج من هذه الجولة أضعف، بل أكثر تمسكاً بحقوقها، وأكثر استعداداً للذهاب بعيداً في معادلة الردع. أما إسرائيل، فستُعيد تقييم خياراتها وهو ما سيفتح الباب أمام أسئلة كبيرة حول مستقبل منطقتنا، وما إذا كان التفاوض سيشمل كل الملفات، وهو الأمر المتوقع.

ما يجري الآن ليس نهاية فصل من الصراع، بل بداية كتابة مشهد جديد بالكامل، هش ومتقلّب، حيث لا شيء ثابت سوى أن إيران لن تخرج منه إلا أكثر إصراراً، والمنطقة ستبقى رهينة لعبة حافة الهاوية، بانتظار ما سيفرضه الميدان والسياسة معاً.