لم تمضِ أيام على زيارة المبعوث الأميركي توم براك العاصمة اللبنانية بيروت، حتى بدا أن الأجواء "الإيجابية" التي أحاطت بها سرعان ما بدأت تتراجع، بل تتبدّد. فمع استمرار التوتر على الجبهة الجنوبية، وتوسّع رقعة القصف الإسرائيلي لتطال مناطق جديدة في البقاع والجنوب، وصولاً إلى الشمال، تعود التساؤلات حول مدى واقعية الرهانات على المسارات الدبلوماسية، لا سيّما في ظلّ غياب الضمانات الجدية، واتساع الانقسامات الداخلية في لبنان.

صحيح أنّ براك فاجأ الأوساط السياسية بإيجابيته التي وصفها البعض بـ"المفرطة" بعد تلقّيه الردّ الرسمي على المقترحات التي سبق أن قدّمها في زيارته الأولى، ولا سيما المتعلقة بوجوب نزع السلاح بحلول نهاية العام الحالي كحدّ أقصى، خصوصًا لجهة تأكيده أنّ الولايات المتحدة "لا تملي" على اللبنانيين ما ينبغي عليهم فعله، بل نفيه الحديث عن جدول زمني "ملزم" للدولة لحصر السلاح بيدها، وتأكيده في المقابل أنّ إسرائيل "لا تسعى" للحرب.

لكن الصحيح أيضًا أنّ الرجل حمل أيضًا سلسلة رسائل "صارمة"، بحسب ما سُرّب من لقاءاته مع مختلف الشخصيات والقوى السياسية، وما تقاطعت على تأكيده مصادر دبلوماسية عدّة، حيث أكد لجميع من اجتمع بهم أنّ الولايات المتحدة "لن تنتظر إلى ما لا نهاية"، علمًا أنّه كرّر هذا الموقف، ولو بصورة ملطّفة، في تصريحاته التلفزيونية، حين قال إنّ "⁠لا أحد سيبقى يفاوض مع لبنان حتى العام المقبل"، بما معناه أنّ الفرصة المتاحة حاليًا قد لا تدوم طويلاً.

ولعلّ ما يلفت الانتباه في الساعات الأخيرة، أنّ الدبلوماسية التي يقودها الأميركيون، والتي أضحت "ساخنة" لا "باردة"، قوبلت بمزيدٍ من التصعيد الإسرائيلي، ترجم بعمليات استهداف مكثّفة، وصلت إلى مناطق لم تشملها منذ اتفاق وقف إطلاق النار، ما يطرح علامات استفهام بالجملة عن الرسائل التي توجّهها إسرائيل، فهل هو "ضغط بالنار" قد يتوسّع في الأيام المقبلة، أم أنه قد يكون "إنذارًا أخيرًا" بإمكانية الذهاب في التصعيد إلى الحدّ الأقصى؟!.

هكذا، لا تزال الأوساط السياسية في لبنان منشغلة في قراءة نتائج زيارة المبعوث الأميركي، وفي تحليل دلالات الردّ اللبناني على المقترحات الأميركية بشأن السلاح وغيره، وسط تباين في المواقف والآراء، ترجم عمليًا في السجال غير المباشر بين رئيس الحكومة نواف سلام ورئيس حزب "​القوات اللبنانية​" سمير جعجع، على خلفية اعتبار الأخير أنّ الردّ الذي سلّمه الرؤساء الثلاثة إلى المبعوث الأميركي ليس دستوريًا، ولا قانونيًا، ولا حتى رسميًا.

ويقول العارفون في هذا الإطار، إنّ "الإيجابية الشكلية" التي أفرزتها الزيارة، مع تعبير المبعوث الأميركي عن "امتنانه" للردّ الذي تلقّاه من المسؤولين اللبنانيين، ليست كافية، وقد لا تعمّر طويلاً، لأنّ المسؤولين الأميركيين والإسرائيليّين يريدون خطوات ملموسة لا تحتمل اللبس، على مستوى سحب السلاح، بعيدًا عن أيّ شكل من أشكال المماطلة أو التسويف، التي قد لا يتحمّل البلد التكاليف الباهظة التي قد تترتّب عليها، إذا ما أدّت إلى حربٍ جديدة.

ولعلّ موقف "القوات اللبنانية" المعترض في الشكل على طريقة صياغة الردّ اللبناني، ولكن في المضمون أيضًا، يندرج في هذا الإطار، باعتبار أنّ "القوات" تصرّ على ضرورة تسليم السلاح في أقرب وقت ممكن، ومن دون أيّ مقدّمات، أو شروط، بل هي تتحفّظ على مبدأ الحوار والتنسيق مع "​حزب الله​" لتحقيق هدف "حصر السلاح بيد الدولة"، باعتبار أنّ المطلوب تنفيذ هذا البند الذي لحظه البيان الوزاري للحكومة، كما قسَم رئيس الجمهورية، ولو بالقوة.

في المقابل، ثمّة من يعتبر أنّ المنطق "القواتي" لا يستقيم، بل يدرجه في خانة "المزايدات الشعبوية" حتى على الأميركيّين، المقتنعين بأنّ سحب السلاح يتطلّب نوعًا من التوافق الداخلي، أو بالحدّ الأدنى تحضير الأرضية المناسبة، ويرى أصحاب هذا الرأي أنّ من غير المجدي تسليم السلاح من دون ضمانات فعلية وجدّية، خصوصًا أنّ اتفاقًا سابقًا حصل لوقف إطلاق النار، لكنّ إسرائيل لم تلتزم به ليوم واحد، وهو سيناريو يمكن أن يتكرّر في أيّ وقت.

عمومًا، بعيدًا عن السجال الداخلي، ورغم المناخ الدبلوماسي الذي حاول براك التأسيس له، فإنّ الوقائع على الأرض تسير في اتجاه مغاير. ففي اليومين الأخيرين فقط، وسّعت إسرائيل من نطاق ضرباتها لتشمل مناطق جديدة كما حصل في العيرونية في مدينة طرابلس، في خرق هو الأول من نوعه منذ اتفاق وقف إطلاق النار، بل إنّها ذهبت لحدّ الإعلان عن إطلاق عمليات خاصة في الجنوب اللبناني، ضدّ مراكز لـ"حزب الله".

اللافت أنّ "حزب الله"، على لسان نائب أمينه العام الشيخ نعيم قاسم، أعلن صراحةً أنّ "للصبر حدودًا"، مؤكدًا أن المقاومة جاهزة لأي سيناريو، بما في ذلك الحرب الشاملة، إذا فرضت عليها. هذا الموقف، وإن بدا تصعيديًا، يعكس في الوقت نفسه محاولة لردع تل أبيب، التي تحاول توظيف الوقت الأميركي الضائع لتحقيق مكاسب ميدانية قبل حسم الخيارات السياسية.

في هذا السياق، ثمّة من يرى أنّ زيارة براك لم تكن سوى حلقة في سلسلة محاولات أميركية لتبريد الجبهة اللبنانية، دون تقديم ضمانات جدية أو حتى آفاق واضحة للتسوية. وضمن هذا السياق، تسجّل الأوساط السياسية مفارقة لافتة: ففي حين تواصل واشنطن مساعيها على خطّ بيروت-تل أبيب، تبدو تل أبيب أقلّ التزامًا بالتفاهمات، وأكثر ميلاً إلى التصعيد بالنار، سواء من أجل الضغط الميداني، أو ربما لفرض أمر واقع جديد.

في المقابل، يبدو "حزب الله" ثابتًا على موقفه، فهو يرفض النقاش بسلاحه تحت أيّ ضغط، ويعتبر أنّ ثمّة "أولويات" يجب إنجازها في المقام الأول، بينها انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية ووقف خروقاتها اليومية، كما أنّ الحزب ذهب أبعد من ذلك، عبر التلويح على لسان أمينه العام الشيخ نعيم قاسم بـ"نفاد صبره"، إذ قال: "لا نستطيع أن نبقى صابرين إلى ما شاء الله وتوجد حدود بالنهاية"، وفق تعبيره.

في المحصلة، يمكن القول إنّ نتائج زيارة توم براك إلى بيروت، وإن عكست في ظاهرها رغبة أميركية في تجنّب الانفجار، إلا أنّها اصطدمت بحقيقتين واضحتين: أولاهما، غياب التفاهم الداخلي في لبنان، بدليل السجال الذي نشب على خلفية الرد اللبناني على ورقة المقترحات الرسمية، وثانيتهما، غياب الإرادة الإسرائيلية الجدية في وقف التصعيد من دون تحقيق مكاسب ملموسة على الأرض، وهو ما ظهر جليًا في اليومين الماضيين.

وبين هذين العائقين، تبقى سيناريوهات المرحلة المقبلة مفتوحة على الاحتمالات كافة. فالوضع الحالي لا يشير إلى انفراج قريب، ولا إلى حسم عسكري حتمي. بل إلى استمرار المراوحة تحت سقف النار، في انتظار تسوية مؤجلة، قد تأتي، وقد لا تأتي...