تتكرر في بعض الأوساط، الدعوات والمزاعم التي تؤكد أن ​لبنان​ هو جزء لا يتجزأ من ​سوريا​، وأنه يجب إعادة "ضمه" أو تسليمه مجددًا إلى السيطرة السورية. هذه الدعوات تنطلق من أبعاد سياسية وخلفيات يقال انها تاريخية معقدة، لكنها في جوهرها تفتقد إلى فهم دقيق للتاريخ والواقع الجغرافي والسياسي الحاليين. إن النظر إلى لبنان ككيان مستقل بذاته، له تاريخه وهويته وجغرافيته السياسية، هو الأصح. وكي لا نعود الى حضارة لبنان منذ ايام الفينيقيين، فلنكتف بالتاريخ الحديث.

حين نقف على التاريخ الحديث، قبل نشوء الدولة السوريّة الحديثة، كان لبنان منطقة ذات خصوصية تاريخية وجغرافية مستقلة عن المناطق التي تشكل اليوم سوريا. في العهد العثماني، من عام 1861 تحديدًا، أنشأت الدولة العثمانية متصرفيّة جبل لبنان، والتي كانت وحدة إدارية ذات حكم ذاتي نسبي، مخصصة للطائفة المارونية في المنطقة. في المقابل، كانت المناطق التي تشكل سوريا الحديثة مثل دمشق وحلب وحمص تُدار كولايات عثمانية عادية، ولم تتمتع بحكم ذاتي مماثل. إذن، لبنان في شكل المتصرفية كان كيانًا متميزًا عن سوريا.

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، فرضت فرنسا في عام 1920 الانتداب على سوريا ولبنان. وكانت اربع دويلات هي: دولة دمشق، دولة حلب، دولة جبل العلويين، ودولة السهل والجبل. أما سوريا الحديثة فقد تشكلت ككيان سياسي حديث، وتعاملت مع حقول قوة إقليمية ودولية معقدة، وكان لذلك الدور الخارجي بالذات في تشكّل نظامها السياسي. ولم تستطع أن تصبح قوة إقليمية ذات قرار مستقل إلا بموافقة ودعم من القوى الكبرى والفاعلين الإقليميين، وفي أوقات مختلفة تم منحها الضوء الأخضر للهيمنة على لبنان، من قبل الولايات المتحدة وبعض الدول العربية. لكن هذه الهيمنة لم تكن امتدادًا طبيعياً لسوريا كدولة موحدة، بل كانت نتاج تحالفات وموازنات قوى.

ومنذ العام 2011، عرفت سوريا حرباً داخلية شاملة، ادت الى اعادة احياء رغبة الدويلات، الى ان سقط نظام بشار الاسد العام الفائت، ونصّبت الدول الخارجية بغفلة من الزمن احمد الشرع (ابو محمد الجولاني) "قديساً" جديداً لها، وغفرت له كل المجازر وعمليات القتل التي لم تقل خطورة وفظاعة عن مجازر الاسد.

اليوم، الوضع في سوريا مختلف تمامًا عن ذي قبل. ​النظام السوري​ الذي كان يسيطر على معظم الأراضي أصبح فعليًا مقسّمًا، فهناك مناطق تخضع لسيطرة القوات التركية، وأخرى تحت النفوذ الإسرائيلي المباشر، إلى جانب وجود جماعات مسلّحة متعدّدة في الداخل السوري تعيش في حالة صراع مستمر، وتضطهد بعض المكونات وخصوصاً منها المسيحية. سوريا أضعف بكثير مما كانت عليه في العقود الماضية، وهي بعيدة عن قدرتها على السيطرة الكاملة على أراضيها، فكيف يمكنها أن تفرض سيطرتها على لبنان، وهل تناسى الجميع ان اسرائيل قضت تماماً على ترسانة سوريا العسكرية من الاسلحة؟.

ومن المفارقات التي تكشف هشاشة الادعاءات حول قوة سوريا وتماسكها، هرولة النظام السوري في الآونة الاخيرة نحو فتح حوار مباشر مع إسرائيل، وتبنّي خطوات تؤدّي الى التطبيع. هذا التطور لا يتفق مع فكرة "سوريا القويّة" التي يمكنها فرض إرادتها على لبنان، بل يؤكد أن النظام يحاول التكيف مع واقع جديد يحكمه التراجع العسكري والسياسي، وهذا يناقض الدعوات التي تزعم أن سوريا على وشك استعادة لبنان أو السيطرة عليه.

على المستوى السياسي، فإن الدفع بدعم أو فرض تعاطٍ لبناني غير مدروس مع سوريا من الخارج لن يؤدي إلا إلى زيادة التوتر والأحقاد بين البلدين. لبنان لا يحتمل المزيد من الانقسامات التي تفرض عليه من الخارج، و​التدخلات الخارجية​ التي تستهدف خلق محاور جديدة أو فرض السيطرة السوريّة من شأنها أن توحد اللبنانيين ضد هذه المحاولات، وليس لصالح أيّ من الطرفين. التاريخ أثبت أن الحلول المفروضة خارجيًا غالبًا ما تؤدّي إلى فشل ذريع، وتجعل الأوضاع أكثر تعقيدًا.

لبنان هو دولة ذات هويّة مستقلة تاريخيًا وسياسيًا، وعلاقته بسوريا هي علاقة كانت قائمة على حسن الجوار، وكانت طبيعيّة تاريخيّة، ولا يمكن لبعض الجهلة والموتورين اختزالها في مطالب ضمّ أو سيطرة تحت أيّ ستار. وبالتالي، من الأهم أن يدار ملف العلاقات بين البلدين بحذر، بعيدًا عن المغامرات الخارجية التي تزيد من تفاقم الأوضاع.