من بيروت إلى السويداء، ومن طهران إلى بغداد، تُعيد واشنطن تفعيل أدواتها، وتضخ أوهام "الاستقرار عبر الإصلاحات"، لكنها في كل مرة تترك خلفها فوضى كبيرة وكيانات مفرغة من القرار.
تصريحات المبعوث الأميركي إلى لبنان توم باراك عن "نجاحات النموذج السوري" لا تمرّ مرور الكرام، فالسؤال الأهم الذي يفرض نفسه هو هل هذه الفوضى التي تشهدها سوريا اليوم، من السويداء إلى درعا وغيرهما، هي ما تسعى أميركا لتسويقه كنموذج ناجح؟.
منذ سنوات، تنظر الولايات المتحدة إلى سوريا بعين مزدوجة: تريدها دولة ضعيفة بلا سيادة خارج حدود القصر الرئاسي، وتحتفظ بجيوش متعددة الجنسيات على أرضها، وتُديرها عبر عقوبات اقتصادية منهِكة، ثم تدّعي لاحقاً أنها تريد "دعم الإصلاحات"، وحرية الشعب السوري، والآن، وبعد أن نجحت في تحويلها إلى بلد تتقاسمه القوات الأجنبية، وتنهشه الميليشيات، وتُفجَّر فيه الصراعات الطائفية والمناطقية عند الطلب، تتحدث بكل فخر عن هذا "النموذج"، وتقول للبنانيين "احتذوا به".
حين خرج الأميركيون ليعلنوا على لسان باراك، من بيروت، أن "الحكومة السورية مسؤولة عمّا جرى في السويداء ويجب محاسبتها"، لم يكن هدفهم حماية المدنيين، بل تثبيت معادلة جديدة تقول أن المركز مسؤول عن أي انفجار محلي، ويجب إخضاعه دولياً. وهي نفس الصيغة التي يُراد فرضها على لبنان، فإذا انفجر الوضع في الجنوب أو طرابلس، فالمسؤولية على "السلطة" ويجب "إصلاحها" بإشراف دولي، وموضوع سلاح الحزب داخلي لبناني، إنما احتلال اسرائيل وعدوانها اليومي، فلا أحد يستطيع تغييره.
حين يقول باراك إن تجربة الاستقرار نجحت في سوريا، فإنما يختصرها بغياب الحرب الشاملة، متجاهلاً تفكك الدولة، وهجرة الملايين، وسيطرة الجيوش الأجنبية، وخرائط النفوذ المفروضة على الأرض، ومهاجمة الأقليات، فهل هذا ما تريده واشنطن للبنان، وهل تُريده دولة بلا جيش ردع، ولا مقاومة، تُدار من الخارج تحت شعار "الإصلاح"؟.
يبدو واضحاً أن النموذج المفضل أميركياً هو ذلك الذي يُريح إسرائيل. فدول ضعيفة مشرذمة لا تهدد أمن الكيان، بل تفتح الباب لسلام اقتصادي قائم على الهيمنة، وحين تغيب الدولة القوية، يصبح الحديث عن نزع سلاح المقاومة أيسر، تحت عنوان إعادة الهيبة للشرعية، التي تكون قد فُرّغت مسبقاً من أي هيبة، لذلك فالمطلوب من لبنان أن يتعلّم من سوريا لا أن يكرّر مأساتها، وأن يدرك أن الانقسام الداخلي هو المقتل له.
ليس النموذج الأميركي في سوريا هو النجاح، بل هو الفشل المبرمج الذي أُلبس ثوباً دبلوماسياً ويتم تسويقه دولياً على أنه الحل الناجع، ومن يحاول تسويقه في بيروت، إنما يمهّد لحرب داخلية باردة، تبدأ بإضعاف الدولة وتنتهي بتفتيت ما تبقى منها، لذلك لبنان اليوم أمام امتحان سيادي جديد، فإما أن يرفض النماذج المستوردة ويصوغ طريقه السيادي الخاص، أو يدخل في فخ التقاتل الناعم، والموقف الحاسم الآن، هو الوقاية قبل أن يأتي يوم يقال فيه عن بيروت ما يُقال الآن عن السويداء، وما سيُقال في المستقبل عن غيرها، من درعا إلى الشمال الشرقي حيث يتواجد الأكراد في سوريا.