لا شكّ أنّ زيارة الموفد الأميركي توم براك إلى لبنان هذا الأسبوع اختلفت عن سابقتَيها، على الأقلّ من حيث الشكل، فالرجل أمضى أيامًا عدّة في بيروت، تنوّعت فيها لقاءاته، التي لم تعد محصورة بالمسؤولين الرسميّين، بل شملت طيفًا واسعًا من القيادات والمرجعيات، مستعيدًا بذلك شيئًا من "الحيثيّة" التي رسمها المبعوث السابق آموس هوكستين، الذي قال مرارًا إنّه بنى "صداقات" في لبنان لم تنتهِ بانتهاء مهمّته.
إلا أنّ ما لا خلاف عليه أيضًا هو أنّ أجواء الزيارة بدت متناقضة، فالتركيز في يومها الأول انصبّ على تصريح "ملتبس" أدلى به براك بعد لقائه رئيس الحكومة نواف سلام، تحدّث فيه عن "ضمانات" غير ممكنة، باعتبار أنّ واشنطن غير قادرة على "إرغام" إسرائيل على فعل شيء، وأضاف أنّ عدم تسليم السلاح سيشكّل "خيبة أمل" بلا "عواقب". وقد فُسّر هذا الموقف رفضًا ضمنيًا للمطالب اللبنانية، أو حتى تخليًا عن لبنان، رغم نفيه لذلك لاحقًا.
سرعان ما تحوّلت هذه الأجواء من التشاؤم إلى التفاؤل، أو ربما إلى "التشاؤل" كما عبّر بعض المتابعين، مع ما رافق الزيارة من تسريبات عن لقاءات "مثمرة"، خصوصًا الاجتماع المطوّل مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي وُصف بأنّه "نقطة تحوّل" في سياق الزيارة. لكن، هل تكفي هذه المؤشرات لتوصيف الزيارة بأنها "إيجابية فعلاً"، أم أنّها تكرار لسيناريو مألوف انتهى سابقًا إلى مزيد من المراوحة والضبابية؟.
ليس سرًا أنّ اللقاء بين براك وبري كان "الأهمّ" على أجندة الزيارة "الحافلة" باللقاءات، وذلك لاعتبارات عدّة، أبرزها أنّ بري يُعدّ الأقرب إلى "حزب الله"، ولطالما صُنِّف "المفاوض السياسي" باسمه، ما يمنح اللقاء معه بعدًا خاصًا، حتى لو صحّ أنّ الرسائل التي نقلها لم تختلف جوهريًا عن موقفي رئيسي الجمهورية جوزاف عون والحكومة نواف سلام، بفعل التنسيق المسبق عشيّة الزيارة.
ورغم الأجواء السلبية التي سبقت اللقاء، خصوصًا مع الحديث عن رفض "حزب الله" المطلق لأي بحث في موضوع السلاح، فقد أحدث الاجتماع صدىً استثنائيًا، إذ تسربت عنه أجواء تفيد بإمكان العودة إلى طاولة التفاوض غير المباشر، وتبنّي "خارطة طريق" تركّز على تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار كأولوية، مع خطوات متبادلة، تشمل مسائل ترتبط بالسلاح، ولكن أيضًا بانسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي المحتلّة.
وبحسب مصادر مطلعة، أبدى براك ليونة غير مسبوقة في اللغة، وتحدث عن "ضمانات الحد الأدنى" التي قد تفتح الباب أمام تهدئة واقعية. إلا أنّ المفارقة أن بري، رغم تفاؤله الحذر الذي آثر التكتّم على أسبابه وخلفيّاته، لم يُسجّل أي تقدّم ملموس، بل شدّد في تصريحات صحافية على أنّ "لا اتفاق جديدًا، بل هناك اتفاق موجود سنعمل على تطبيقه، وهذا من شأنه أن يوقف العدوان"، وفق تعبيره.
بهذا المعنى، تبدو الإيجابية محصورة بالشكل أكثر منها بالمضمون، أو مشروطة بسقف "الثنائي الشيعي" الذي لم يتزحزح: لا تفاوض من دون وقف إطلاق النار، ولا خطوات متقدمة من دون انسحاب إسرائيلي وضمانات واضحة. وهي ضمانات لا يبدو أن واشنطن قادرة على تقديمها بحسب اعتراف براك نفسه، الأمر الذي يطرح تساؤلات داخلية حول جدوى أي تحرّك إذا لم تُبادر إسرائيل أولاً إلى وقف اعتداءاتها.
ولعلّ المفارقة الأكبر أنّ براك، الذي شدد في مستهل زيارته على غياب الضمانات، عاد وتحدث عن "فرصة حقيقية" لإنهاء المواجهة، ما دفع كثيرين إلى القول إنّه بات "يقول الشيء ونقيضه"، فيما ذهب آخرون إلى اعتبار أن كثافة تصريحاته الصحافية، بدل أن تعكس تقدّمًا، صارت تعبيرًا عن قلقه من انسداد أفق مهمته، التي يُفترض أن تبقى في إطار المداولات السرية لا المنابر العلنية.
في المحصّلة، لم تُفضِ زيارة براك إلى أي اختراق سياسي فعلي، رغم محاولات تغليفها بإشارات تهدئة. فالموقف الأميركي لا يزال عاجزًا عن فرض التزام واضح بوقف النار، فيما الجانب اللبناني، لا سيما "الثنائي"، يتمسّك بسقفه المرتفع، ويرفض أي مساومة على القرار 1701 أو على دور المقاومة، ما يجعل الحديث عن "سحب السلاح" مؤجّلًا حتى إشعار آخر، رغم كل التعهدات الرسمية بتطبيق بند حصر السلاح بيد الدولة.
أما الجانب الإسرائيلي، فلا توحي التسريبات الواردة عنه بأيّ "رضا" عن نتائج المباحثات حتى الآن، علمًا أنّ تل أبيب تصرّ علنًا على "نزع السلاح"، وتعتبر أنّ أي تهدئة لا ترتبط بهذه النقطة الجوهرية لن تكون قابلة للصمود. وتشير بعض الأوساط المتابعة إلى أنّ المسؤولين الإسرائيليين عبّروا عن استيائهم ممّا اعتبروه "تمييعًا" للمطلب الأساسي المتعلق بسلاح "حزب الله"، ورفضوا أي حديث عن مقايضات أو مراحل.
وقد نقلت مصادر دبلوماسية أنّ إسرائيل حذّرت من العودة إلى دوّامة المماطلة، وأنّها تنتظر من واشنطن موقفًا أكثر صرامة، خصوصًا بعد خطاب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم، الذي فُسّر في تل أبيب كرسالة واضحة بأنّ الحزب ليس في وارد التراجع. وبذلك، تتكرّس مشهدية الانقسام: موقف لبناني يطالب بوقف العدوان كشرط أولي، وموقف إسرائيلي متمسّك بأن تكون الخطوة الأولى هي تفكيك المنظومة العسكرية للمقاومة، فيما واشنطن تكتفي بإدارة التناقضات دون قدرة فعلية على الحسم أو التوفيق بينها.
وفي النتيجة، يمكن القول في قراءة واقعية إنّ زيارة براك لم تكن سلبية بالكامل، لكنها بالتأكيد لم تكن "إيجابية حاسمة" كما روّج البعض. فالمواقف لا تزال على حالها، والضمانات غائبة، والسقف اللبناني مرتفع، بينما تبقى واشنطن في موقع المتفرّج أكثر منها في موقع الضامن، بل إنّ الخشية الأكبر هي من تكرار سيناريو الزيارة السابقة، حين روّج براك لتفاهمات "مبشرة" سرعان ما تبخّرت مع تصريحاته العابرة للحدود...