يُذكَرُ القدِّيسان الصدِّيقان ​يواكيم وحنَّة​، جَدَّا المسيح الإله، في خِتام القدَّاس الإلهيِّ وفي صلوات الغروب والسَحَر. فلماذا تُشدِّد الكنيسة الأرثوذكسيَّة على ذكرهما، وما هي أهمِّيَّة ذلك؟

للإجابة، لا بدَّ من الإحاطة بمفهوم التدبير الإلهيِّ الخلاصيِّ للبشريَّة، الَّذي أَتمَّه الربُّ يسوع المسيح بتجسُّده وصلبه وقيامته وصعوده بالجسد الممجَّد إلى السموات، وإرساله ​الروح القدس​، المنبثق من الآب، إلى الكنيسة. هذا كلُّه تمَّ بمشيئة إلهيَّة واحدة للثالوث القدُّوس: الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد في الجوهر.

يُذكر في إنجيل يعقوب المنحول (حوالي منتصف القرن الثاني للميلاد) أنَّ يواكيم وحنَّة هما والدا ​مريم العذراء​، والدة الإله. وعلى الرغم من أنَّ هذا الإنجيل ليس قانونيًّا، إلَّا أنَّ آباء الكنيسة استقوا منه العديد من التفاصيل الَّتي تتعلَّق بحياة والدة الإله ووالديها وأعيادها، لأنَّ فيه عناصر مقبولة ولا تُرفض كلُّها.

تركِّز الكنيسة على أنَّ لكلِّ إنسان دورًا في التدبير الخلاصيِّ، وهو مدعوٌّ ليشترك فيه بحرِّيَّته الكاملة ونقاوة قلبه. تكريم يواكيم وحنَّة بدأ في القرون الأولى، إذ اعتُبرا شخصين بارَّين، استجاب الله لصلاتهما الحارَّة، فرزقَهُما الطفلة مريم، الَّتي قدَّماها للهيكل، فصارت والدة الإله.

تميَّزت مريم بتواضعها العظيم، فعندما أرسل الله إليها الملاك جبرائيل ليُبشِّرها بتجسُّد الكلمة منها، استؤذنت، وبعد أن تأكَّدت أنَّ الحبل هو من الروح القدس، قالت: «هوذا أنا أمَة الربِّ، ليكُنْ لي كقولك» (لوقا 1: 38).

يا لهذه العظمة! الخالق يستأذن مخلوقه ليتجسَّد منه! نعم، هذه هي محبَّة الله اللامحدودة، الَّتي لا تُفهم إلَّا من خلال المحبَّة الإلهيَّة، لا بمنطق الإنسان المحدود.

نحن مدعوُّون إلى أن نتمثَّل بيواكيم وحنَّة في نقاوة قلبَيهما، وسيرة حياتهما، واحتمالهما الصعاب بثقة بالله. فقد كانا عاقرَين ومُهانَين في نظر المجتمع، ومرفوضَين من قِبَل الكهنة، لاعتقادهم أنَّ العقر علامة غضب إلهيٍّ. حتَّى لم يكن يُسمح لهما بتقديم ذبيحة في الهيكل. ومع ذلك، لم ييأسا، بل ثابرا على الصلاة بإيمان كبير، فكافأهما الله بأن حبلت حنَّة، رغم تقدُّمهما في السنِّ.

هكذا تُبنى البيوت والعائلات، وتسكن فيها النعمة الإلهيَّة. ثمرة صلاتهما كانت مريم العذراء، «أمَّ الحياة»، الَّتي قدَّماها إلى الهيكل في عمر الثلاث سنوات، كما نذرا.

ويعلِّماننا أمرًا آخر مهمًّا: أولادنا هم أولاد المسيح، ومسؤوليَّتنا أمام الله أن نربِّيهم على تعاليم الإنجيل، ليكونوا هيكلاً حيًّا للربِّ، لأنَّ هدف وجودنا هو القداسة.

لذلك، يُعيَّد للقدِّيسَين يواكيم وحنَّة في اليوم التالي لميلاد العذراء (9 أيلول)، وتُقام ذكرى رقاد حنَّة في 25 تموز. نقول رقادها لا موتها، لأنَّ الموت هو الانفصال عن الله، أمَّا الرقاد فهو انتقال.

الصلوات الليتورجيَّة الَّتي تُقام لهذين الصدِّيقين، كما لوالدة الإله، غنيَّة بالنصوص اللاهوتيَّة الَّتي تحاكي سرَّ الخلاص. نقرأ مثلاً في إحداها:

«إنَّ فرح العالم بأسره قد أشرق لنا من الصدِّيقَين يواكيم وحنَّة، أعني به العذراء الكلِّيَّة المديح، الَّتي، لفرط طهارتها، صارت هيكلاً للَّه حيًّا، وعُرفت أنَّها وحدها والدة الإله بالحقيقة. فبطلباتها، أيُّها المسيح الإله، أسبِغْ على العالم السلام، وعلى نفوسنا عظيم الرحمة» (عيد ميلاد العذراء).

نرى يواكيم وحنَّة في الفنِّ الإيقونوغرافيِّ في أيقونات ميلاد العذراء وتقديمها إلى الهيكل، كما في أيقونات تُظهرُهما واقفَين أو جالسَين، وبينهما مريم طفلة. وفي أخرى يظهران في مشهد اللقاء أمام الهيكل المرسوم على شكل كنيسة، في وسطها «الباب الملوكيُّ»، كأنَّهما في قدس الأقداس.

من خصائص لاهوت الأيقونة أنَّها لا تُقيِّد المشهد ببُعدٍ ثالث (العمق)، بل تُظهِره في فضاءٍ مفتوح، لا في حَيِّزٍ مغلق، لأنّها نافذةٌ مفتوحة على الملكوت السماوي، وإن كانت الأحداث المصوّرة تجري داخل مكان ما.

أحيانًا يُصوَّر يواكيم وحنَّة واقفَين بشكل منفصل. هذه ​الأيقونات​ ظهرت بعد الألف الأوَّل للميلاد. من أقدم الفسيفساء عنهما، نجد مجموعة تعود إلى بداية القرن الرابع عشر الميلاديِّ (حوالي 1320م) في كنيسة خورا (Chora Church) في القسطنطينيَّة (إسطنبول حاليًّا)، حيث نرى زكريَّا الكاهن يرفض تقدمة يواكيم وحنَّة بسبب عقرهما، ويواكيم يجلس يصلّي، والملاك جبرائيل يبشّر حنّة، وميلاد العذراء.

كما توجد أيقونتان بديعتان للفنَّان الكريتيِّ Angelos Akotantos (1390-1457م). تظهر في الأولى مريم الطفلة في حضن أمِّها حنَّة، تقدِّم لها زهرة ترمز إلى العفَّة والطهارة. وفي الثانية، تظهر العذراء البالغة، تحمل الربَّ يسوع المسيح، وهي بدورها في حضن أمِّها حنَّة.

غالبًا ما يُصوَّر يواكيم كشيخ، ذي لحية بيضاء أو رماديَّة طويلة، بشعر خفيف أو أصلع، ويرتدي himation[1] وkhiton[2] بألوان ترابيَّة (بنِّيّ، ذهبيّ، أحمر، أخضر). وجهه يُظهر اللطف والتواضع والصلاة.

ونجد في دير Nea Moni في جزيرة Chios اليونانية، فسيفساء تعود إلى الفترة ما بين 1042 و1056م، تُصوّر يواكيم شابًّا، وأخرى تُظهر القديسة حنّة وهي تحمل صليبًا، إذ يُعدّ الصليب رمزًا للشهادة والاستشهاد. ورغم أن القديسة حنّة لم تكن شهيدة بالمعنى الحرفي للكلمة، إلا أنها شهدت للمسيح بثباتها، وإيمانها العميق، وأمانتها، وصبرها في مواجهة الصعاب، فكان لها دورٌ روحي في تاريخ الخلاص.

كما نُشير إلى أنه، منذ القرن الحادي عشر، أصبح من الشائع أن تُصوَّر القدّيسات والقدّيسون غير الشهداء وهم يحملون صلبانًا في الكنائس الكبرى، كعلامة على المجد والقوة التي يمنحها الصليب.

الخلاصة، "من يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ" (متى 24: 13). والخطوة الأولى في مسيرتنا نحو القداسة هي التسليم الكامل لمشيئة الله.

إلى الربِّ نطلب.

[1]. Himation: قطعة لباس شهيرة في العالم اليوناني والروماني القديم. هو رداء خارجي كان يُلبَس فوق الثوب الداخلي (كـ الـ"خيتون" أو "تونك")، ويُشبه إلى حد ما العباءة أو الشال الكبير، وكان يُلفّ حول الجسد بطريقة أنيقة تُغطي الكتف أو تُترك على واحدة فقط، حسب الوضع والمقام.

[2]. Khiton: هي نوع من الملابس الأساسية في العالم اليوناني القديم، وكانت تُرتدى تحت ال himation، وهو ثوب طويل من قماش خفيف (عادة من الكتان أو الصوف)، يُلبس مباشرة على الجسد، ويكون في الغالب بلا أكمام أو بأكمام قصيرة، يُثبت على الكتفين بدبابيس (fibulae) أو خيوط.