في ظل المشهد ال​لبنان​ي المأزوم سياسيًا واقتصاديًا، يبرز خطاب رئيس ​حزب القوات اللبنانية​ ​سمير جعجع​ كواحد من أكثر الخطابات حدة وقوة. ولكن، في مقابل الانشراح لوجود مثل هذه القوة والحدية، فإن هذا الموقف يحمل تناقضات جوهرية تكشف عمق المأزق السياسي الذي يعيشه البلد، وتُظهر كيف أن حتى من يرفع شعارات الحسم والمواجهة ينزلق أحيانًا إلى تسويات ظرفية تُفرغ المواقف من محتواها.

أولى هذه المفارقات تكمن في موقفه من رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون. فمن جهة، يقدّمه جعجع على اعتبار انه حليف استراتيجي ويمتدحه بشدة باعتباره رجل المرحلة، خصوصاً بعد زيارته في قصر بعبدا منذ فترة. ومن جهة أخرى، لا يتردد في توجيه انتقادات مبطّنة له باعتباره يتلكأ في اتخاذ مواقف حاسمة، لا سيّما في ما يتعلق بضبط الأمن أو التعاطي مع ​سلاح حزب الله​. هذا التناقض يُظهر تردّدًا في رسم العلاقة مع رئاسة الجمهورية والمؤسسة العسكرية (الرئيس عون هو القائد الأعلى للقوات المسلحة)، وكأن جعجع يريد رئيسًا "قويًا" يواجه سلاح الحزب على ان "ينأى" هو بنفسه عن أي تداعيات وتصعيد داخلي قد ينجم عن ذلك.

الأمر نفسه ينسحب على موقفه من الحكومة ورئيسها ​نواف سلام​. فرغم أن حزب القوات يشارك بفعالية في الحكومة ويدعم استمرارها، نجده ينتقدها عند كل قرار لا يعجبه، حتى لو كان وزراؤه قد صوتوا عليه. هذا يعكس تناقضًا في التوجه: دعم الاستقرار الحكومي من جهة، وتحميل الحكومة نفسها مسؤولية العجز من جهة أخرى، وكأن المطلوب أن تتحرك الدولة وفق التوجه الذي يريده هو حصراً.

في ما يتعلق بسلاح حزب الله، يتبنى جعجع خطابًا تصعيديًا حين يقول ان لا خوف من حرب أهليّة إذا طُرحت مسألة نزع السلاح بالقوة، لكنه في المقابل يؤيّد عدم دخول الجيش إلى الضاحية الجنوبيّة، ما يعني ان السبب الفعلي لذلك واضح: الخشية من الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع الحزب، واحتمال تفجّر الوضع داخليًا. ما يعني أن "الخوف من الحرب" هو قاعدة مستترة تحكم خياراته، حتى حين يُنكر ذلك علنًا.

أما في ما يخص العلاقات الإقليمية، فإن جعجع يكيل بمكيالين. فهو يحمّل حزب الله مسؤولية خرق التفاهمات الأمنية مع إسرائيل، لكنه يتغاضى عن عدم التزام إسرائيل بتعهداتها، وكأنه "يبرر" اعتداءاتها، مع العلم انه اعلن مرارا ًوتكرارا عدم تأييده هذه الاعتداءات. والامر نفسه ينسحب على النظام السوري الجديد الذي يعفيه رئيس القوات من المسؤولية، متذرعًا بعدم صدور مواقف عدائيّة منه تجاه لبنان، متناسيًا ما جرى على الحدود، وتراخيه المتعمّد في أي انفتاح عملي تجاه لبنان، ورفضه إعادة النازحين السوريين فيما كان يحمّل (أي جعجع) نظام الأسد (وعن حق) مسؤولية بقاء هؤلاء في البلد. وهل تساءل جعجع عن السبب الذي يجعل العالم يهرول لتقديم المساعدات المادية والاقتصادية الى النظام السوري فيما الأوضاع هناك تشهد عدم استقرار فادح على الصعد الأمنية والاقتصادية والسياسية والشعبية؟ ولماذا لا يصح هناك ما يصح في لبنان؟ ولو ارتُكبت المجازر التي شهدتها مناطق سوريّة، في لبنان (لا سمح الله)، هل كنا امام المشهد الدولي نفسه؟.

النقطة الوحيدة التي يمكن اعتبارها واقعية في كلامه، كانت قوله بأن سلاح حزب الله لم يعد يشكل تهديدًا حقيقيًا لإسرائيل. لكنه عاد ليُناقض نفسه، حين اعتبر أن هذا السلاح هو العقبة الوحيدة أمام السلام في لبنان، متجاهلاً أن العقبة الحقيقية ليست السلاح، بل الرغبة الإسرائيليّة غير المعلنة في اتمام لبنان الى موجة الموقعين على التطبيع او على اتفاق سلام انما بشروط إسرائيلية وبرعاية أميركية بطبيعة الحال، وهو ما يعرف الجميع أنه قادم لا محالة، ولكن ليس عبر الإرادة الحرة بل عبر الضغوط السياسية والاقتصادية معًا.

في المحصّلة، لم ينجح جعجع في استقطاب الشريحة الأكبر من اللبنانيين، واكتفى بمؤيديه ومناصريه الذين سيلتفون حوله مهما كانت أقواله، انما كان بمقدوره اعتماد مقاربة اكثر منطقيّة تجذب اليه عدداً اكبر بكثير من اللبنانيين التواقين الى سماع صوت المنطق والعقل والطروحات العملية الفاعلة للتخلص من الازمات التي يقع فيها لبنان، بدل اعتماد مواقف لا يمكن أن تصمد أمام اختبار الواقع.