مع بدء أسبوع الآلام، يلجأ المسيحيون إلى إحياء العديد من الشعائر الدينية وصولا إلى يوم الجمعة العظيمة فسبت النور والقيامة وإثنين الفصح. ولعلّ أبرز المحطات الدينية التي يحييها المسيحيون تتمثل بـ"​خميس الأسرار​" ورتبة الغسل، اللذين يتخطيان بمفهومهما الديني والروحي إطار العادات والتقاليد، لما يحملانه من معانٍ عميقة في الدين المسيحي. فـ"خميس الأسرار" هو اليوم الذي سبق صلب يسوع المسيح، وهو اليوم الذي أعطى فيه تلاميذه سرّي الإفخارستيا والكهنوت.

ففي ذلك اليوم، جمع يسوع حوله تلاميذه في العشاء السري وحوّل الخبز إلى جسده، والخمر إلى دمه، لتحيا بهما البشرية وتنال بهما غفران خطاياها. وفي هذا الإطار، يشرح ​الأب جورج الترس​ لـ"النشرة" أهمية هذا اليوم عند المسيحيين، لافتا إلى أن "المسيح أسس في خميس الأسرار سر الإفخارستيا وفي هذا النهار كان يتحضر ليمشي نحو الصليب والحدث الاساسي أي الموت على الصليب، حيث أخرج من جنبه الدم والمياه، وهذا أمر تفتخر به الكنيسة"، مشددا على أنه "يوم مقدس في الكنيسة وهو رمز للمسيح والإفخارستيا الذي هو أساس الكنيسة، كما أن الكهنة يحتفلون بتأسيسهم ويكون للبابا في كل عام رسالة يوجهها إلى كهنة العالم".

ببساطة، يختصر الأب الترس معنى خميس الأسرار بالقول: "هو عيد ميلاد الإفخارستيا"، مشيرا إلى أن "يسوع ترك للكنيسة وصية المحبة والتواضع، حيث غسل أرجل الرسل تلاميذه"، شارحا أن "رتبة الغسل تعني أن المسيح وجه فعل تواضع تجاه الشعب"، داعيا "لأن نتواضع على مثال المسيح الذي غسل أرجل تلاميذه، وهو يريد أن نعود إلى مفهوم السلطة التي هي عبارة عن تواضع وتسامح".

يسوع المسيح علّم تلاميذه في ذلك اليوم التواضع، فهو كان المعلّم لكنّه كان خادما أيضا، وأراد لتلاميذه والمؤمنين أن يسيروا على نهجه ويتواضعوا، ويكونوا قدوة للآخرين وخدمة بعضهم بعضا. من هنا، يشدد الأب الترس على "ضرورة توعية المؤمنين على عملية الفداء والتواضع والعودة إلى الكنيسة، والإحتفال بعبور المسيح للآب حيث وحّد ذاته للكنيسة وأعطاهم من حياته وهذا فصح جديد"، قائلا: "يجب أن نعود للكنيسة، وسر الإفخارستيا هو أساس كل الأسرار".

رمزية زيارة سبع كنائس في خميس الأسرار

وفي "خميس الأسرار"، إعتاد المؤمنون على زيارة 7 كنائس، لكن عددا لا بأس به منهم لا يدرك المعنى الديني الحقيقي لهذه الزيارة. وتشير ريموندا لـ"النشرة" إلى أنها "إعتادت منذ صغرها على زيارة سبع كنائس حتى نسيت لماذا تقوم بهذا الأمر وباتت عادة تواظب عليها كل عام"، في حين يشير رامي إلى أن "زيارة 7 كنائس تسمح للمؤمنين بالتوحد بالمسيح وعيش آلامه من خلال التأمل والسجود أمام القربان والعيش مع آلام المسيح".

وفي هذا الإطار، يشير الأب الترس إلى أن "لا وثائق تاريخية تشير لرمزية زيارة سبع كنائس، وهو تقليد قديم، كما أن الباباوات منحوا غفرانا كاملا لمن يزور 7 كنائس يصمد فيها القربان المقدس مع ممارسة سر التوبة"، موضحا كذلك أن "رقم "7" هو رقم الكمال وهذا كله من الكتاب المقدس"، مشددا على أنه "على الرغم من عدم وجود وثائق تاريخية في هذا الإطار فإن زيارة الكنائس السبع تستند إلى أمور عديدة من الإنجيل تم وضعها في إطار عملي".

ويوضح الترس أن "هذا الرقم يشير كذلك إلى المناطق الجغرافية السبعة والمحطات السبع التي مر بها المسيح ليلة آلامه وهي: من العلية إلى بستان الزيتون، ثم من البستان إلى حنّان، ومن حنّان إلى قيافا رئيس الكهنة آنذاك، ثم رابعاً من قيافا إلى بيلاطس، ومن بيلاطس إلى هيرودوس، ومن هيرودوس إلى بيلاطس ثانية وسابعا عند بيلاطس حيث كان الجلد والمحاكمة وإطلاق برأبا ثم التوجه إلى الصلب"، لافتا كذلك إلى "أسرار الكنيسة السبعة وهي منبع الحياة الروحية".

ولخميس الأسرار معنى تاريخيا قديما، فعندما كان المسيحيون مضطهدين، كان لديهم سبعة مدافن خارج أسوار روما، وبعد إعتناق الإمبراطور قسطنطين ​المسيحية​، شيدت والدته، القديسة هيلانة، كنيسة على كل مدفن، وكانت الكنائس تقوم بصمد القربان يوم خميس الأسرار، كتذكار للإفخارستيا في العشاء السري. وفي هذا السياق، يشير الأب الترس إلى أنه "يتم صمد القربان في الكنائس السبعة الكبيرة في روما ليلة آلام المسيح ويقوم المؤمنون بزيارتها".

ويخلص الأب الترس إلى القول أن "زيارة 7 كنائس هي علامة وحدة بالإيمان وعيش اللقاء بالقربان وتمهيد للتأمل بآلام المسيح"، مشيرا إلى "أننا بالصلاة والتأمل وتسليم الذات لمشيئة الآب نسهر مع القربان لنتذكر أن يسوع بقي ساهرا في تلك الليلة ونتذكر آلامه".

"خميس الأسرار" لم يكن يوما عاديا في تاريخ الدين المسيحي، فهو مهّد لخلاص البشرية وأعطى الكنيسة أعظم أسرارها: سر الإفخارستيا. وفي هذه الليلة يسهر المؤمن مع المسيح في القربان المقدس للسير معه في الطريق نحو الجلجلة، فالصلب والقيامة في اليوم الثالث كما جاء في الكتب.