تأتي ذكرى الحرب هذه السنة لتعبّر عن مستقبل وشيك بمقدار ما هي متصلة بماضٍ غابر.. هذا على الأقل ما يشعر به غالبية اللبنانيين الذين باتوا يتخوّفون من عودة الحرب بصورتها التقليدية المحفورة في ذاكرتهم، بعدما باتت، أو قاربت أن تكون، واقعاً قائماً يحيط بهم بأشكال مموّهة ومغايرة لنمطية الحروب الأهلية المعهودة.

يُجمع اللبنانيون على عبثية الحرب وعقمها ومأساويتها، كما يجمعون على القول باستمرار وطأتها، وحضورها الثقيل بعناصرها وأسبابها، بيد أن ثمة اجماعاً مفقوداً، رغم أنه مطلوب، على رفضها وإيصاد الأبواب أمام عودتها.

ثمة في لبنان فريقان، أحدهما يريد الحرب، أو على الأقل لا مانع لديه من عودتها، إذا شُكّلت له ضمانة للوصول إلى ما يريد، والآخر يهرب منها ويصرّ على وأد ولادتها المتجددة، حتى لو أسفر ذلك عن حرمانه الوصول إلى ما يريد، والمخيف بين هذا وذاك أن إرادة البعض للحرب، رغم رفض الآخر لها، قد تساوي في لحظة ما، وبحكم الأمر الواقع، حصولها ووقوعها، ذلك أن الحروب تقع غالباً حتى لو كانت تفتقر إلى الإجماع؛ يكفي أن يكون لدى أحد ما استعداد للقتل، ولدى أحد آخر نية الدفاع عن النفس، حتى تصبح الحرب خطراً قائماً.

ليست مسبّبات الحرب الأهلية هي التي قد تؤدي إلى تجدّدها وعودتها، بل نتائجها وإفرازاتها التي شكلت منطلقاً وقاعدة لاستمرار لبنان ما بعد الحرب وبقائه.

المسببات التي أدت إلى اندلاع الحرب عام 1975 باتت اليوم في حكم الباهتة والزائلة، فيما النتائج التي انتهت إليها ما زالت حاضرة بقوة في الحياة اللبنانية العامة، وهي تصلح أن تكون مقدمات لحرب أخرى.

قرار إيقاف الحرب لم يُفضِِ إلى محوها وإنهائها، بل أفضى إلى إعادة إنتاجها ومرحلتها بصيغة لا دموية، وحوّلها إلى حرب باردة قابلة للاشتعال مجدداً..

توقفت الحرب، دستورياً من خلال اتفاق الطائف، وإجرائياً من طريق حل الميليشيات.. الطائف لم يطبَّق وبقي مجرد مادة حجاج وسجال في الخصومات السياسية الحادة، والميليشيات إن حُلّت شكلاً، فقد بقي مضمونها وروحها في الشارع والمؤسسات على حدّ سواء، إذاً عوامل استمرار الحرب ليست غائبة وعوامل إيقافها ليست ناجزة.

ثمة في لبنان سياسيون مارسوا القتل يوماً اضطراراً، وثمة قتلة يمارسون اليوم السياسة مضطرين، وفي هذا الخضمّ ثمة سياسة لم تفلح في تخفيف وطأة الأزمات عن كاهل اللبنانيين، واقتتال يتخوّفون منه عند كل منعطف تمرّ به الأزمة اللبنانية.

تحتاج الحرب حتى تشتعل إلى سلاح، وعصبيات، وقضايا مختلَف حولها، وعواصف إقليمية، وتدخّلات خارجية، ومحرّضين، وأعداء يتربّصون و.. فيما تكفي إرادة اللبنانيين الصادقة وحدها حتى تحول دون وقوعها.. أيّهما متوافر لدينا أكثر في لبنان؟

هل توقفت الحرب الأهلية بالأمس لأن المتقاتلين تعبوا؟

هل يتحيّن البعض الفرصة للاستفاقة من استراحة المحارب التي يريد لها أن تنتهي؟