لم تكن انتخابات مجالس المحافظات العراقية التي جرت السبت الماضي مجرد انتخابات لتشكيل حكومة محلية تهدف لتفعيل خدمات المواطنين وتحسين ظروف معيشتهم، انما كانت "بروفة" استباقية لما يمكن أن تحمله الانتخابات التشريعية المقررة العام المقبل لا بل ايضاً معركة تحديد الأحجام وصياغة التحالفات المقبلة.

ورغم مرور هذه الانتخابات نوعا ما بشكل هادئ ورغم بعض الخروقات الأمنية الا أن الخلاف بدأ على نسبة المشاركة فيها والتي تفاوتت بين ما أعلنته المفوضية عن وصولها الى خمسين في المئة، أو ما صرّحت به بعض شبكات المراقبة عن انها لم تتجاوز نسبة 46 % كحد أقصى بإشارة إلى أنها خالفت التوقعات، وللتدليل أيضا عن أن أي نسبة يحوز عليها الفائز تبقى نسبة متدنية لا يمكن عندها الحديث عن فوز كاسح لقائمة على حساب اخرى. وبالرّغم أن النتائج الأولية تشير لغاية الآن الى تقدم لائحة (دولة القانون) في بعض محافظات الجنوب وصعود (كتلة المواطن) التي يتزعمها المجلس الاعلى في محافظات اخرى عدا عن تقدم التيار الصدري في محافظة او اثنين الا أن الصورة لغاية الآن لا تبدو مكتملة.

ومع أن عدد المرشحين كان كبيراً نسبياً (22 مرشح) لكلّ مقعد فان المنافسة الحقيقية بدت على أشدها بين لاعبين تقليديين في الوسطين السنّي والشيعي في معركة تحديد الأوزان لفرض مشاريعهم المستقبلية، علماً بأن المنتصر لن يتمكن في هذه الانتخابات ومنها بغداد، من إحداث تغيير حقيقي في هذه المحافظات، بسبب محدودية صلاحياتها وارتباطها بالحكومة المركزية، إنما هذا الإنتصار سيستخدم في الصراع الدائر بين مؤيدي رئيس الوزراء نوري المالكي ومعارضيه.

ويلعب ما يسمى بنظام "سانت ليغو "، وهو النظام الانتخابي الذي يطبّق للمرة الأولى في العراق، دورا هاماً في رسم خارطة الفائزين وكيفية صوغ تحالفاتهم، اذ وبموجب هذا القانون لن يسمح للقوى الكبرى بالحصول على المقاعد التعويضية التي ذهبت له عام 2009 اي الى القوى التي حصلت على أصوات أكثر، وستذهب الآن في الاتجاه ذاته وهؤلاء في الغالب من خارج الأحزاب التقليدية، وبهذا تتقلص احتمالات هيمنة الكتل على كل المقاعد وإعطاء فرصة للكيانات الصغيرة بإحداث فرق في التوازنات السياسية القائمة أي أنها يمكن أن تشكّل نواة لخارطة سياسية مستقبلية لما يسمى

بـ(صراع التحالفات المقبل) بمعنى أنه لن يكون هناك وجود لغالب يمكن أن يشكّل وحده حكومات محلية في المحافظات بل سيحتاج حتما لصياغة تحالفات قد ترهن بعض مواقفه وتجعله عرضة (للإبتزاز) على أكثر من صعيد.

الا أن المراقبين لهذه الانتخابات وللعملية السياسية في العراق يرونها معركة التنافس الشيعي-الشيعي بامتياز، حيث أن المجلس الأعلى والتيار الصدري وبعض الشخصيات الشيعية المستقلة التفتت إلى هيمنة رئيس الحكومة نوري المالكي على مراكز القرار (الشيعي والحكومي)، وهي تحاول الان من خلال هذه التجربة اعادة دورها الرائد الذي (اقتنصه) المالكي منذ الانتخابات الماضية عام 2009 والذي قال معارضوه انه تفرّد وتسلّط وهمّش شركاءه من داخل طائفته وخارجها. وبهذا يفتح بازار التكهنات حول خارطة التحالفات المقبلة، منهم من يرى انه لا بد للمالكي من ان يمدّ يده الى المجلس الأعلى ذلك بعد أن حقّق الأخير بعض التقدم في المحافظات الجنوبية كذلك الأمر بالنسبة لكتلة الاحرار (الصدرية) على خلفية حدوث تقارب (حكيمي - صدري) وذلك بعد إزالة الشوائب في العلاقات بينهما، او حتى دخول اربيل على خط التحالف واحياء محور (اربيل-النجف) المستبعد عنه المالكي نظرا لتدهور علاقات الاخير مع الاكراد ولتنامي الصوت السني المناهض له والمتمثل بالنجيفي وابو ريشة اصحاب طرح فكرة الاقليم والعصيان المدني وثورة اسقاط النظام، كلها عوامل قد تسنح للمعارضين في حال فوزهم بهذه الانتخابات فرصة الضغط على الحكومة وتحجيم المالكي ومنعه من الترشّح لولاية ثالثة والتي ربما ايضاً ادّت الى إقصائه قبل الانتخابات العامة المقررة في العام المقبل والذي يبدو أنّه يحمل شعار حكومة الغالبية السياسية أساسا لحملته الانتخابية والتي دعمها بثقة زائدة طلبه باجراءانتخابات مبكرة لثقته بالفوز الساحق، وهي ثقة مشكوك بأمرها في ظلّ تغيّر الموازين الداخلية والخارجية في العراق وذلك حينما استفاد من التجاذبات الاقليمية بتشكيل حكومته الثانية في ما سمّي آنذاك بالتوافق الايراني- الاميركي الذي لبّى المصلحة الاميركية بالانسحاب من العراق فكان نوري المالكي رجل التقارب بين الدولتين.

اما الآن وفي ظل هذا التنافر الواضح بين سياسة الولايات المتحدة وإيران بخصوص ملفات كثيرة اهمها الأزمة السورية فقد سقط هذا المعيار. أما على مستوى الداخل فان تقارب الأكراد مع بعض القوى السنّية – المعادية للمالكي – قد ينتج مشروعاً وطنياً آخر يختلف تماما عمّا نشهده اليوم، فضلاً عن صعود بعض شخصيات تسمّى بـ(صقور الشيعة) مثل علي الاديب وخضيّر الخزاعي وابراهيم الجعفري الذين قد يتصدّوا لمنصب رئاسة الوزراء بعدما طالهم تهميش المالكي لهم واستئثاره بالقرار السياسي. وتأتي خطوة انفصال المطلك عن حلفائه السنّة واقترابه الحذر من المالكي خطوة تلقّفها المالكي بحذرٍ ايضاً، فكان قرار تأجيل الانتخابات في الموصل والأنبار اختبارا لقدرة المطلك بمواجهة الجبهة السنية التي شكّلها رئيس البرلمان اسامة النجيفي في مدينتي صلاح الدين وديالى والتي كان عنوانها اعادة تثبيت الهوية السنية والتي عانوا من تشتتها منذ العام 2003، وها هي دعوات تعبئتهم بدأت تظهر على الارض في ظلّ المواجهات الدامية التي تحصل مع القوّات الحكومية في أكثر من مدينة.

ورغم كل هذه الأجواء يبقى من الصعب قراءة التحالفات المقبلة بشكل موضوعي بعيد عن البراغماتية والمصلحية وبانتظار أيضا ما ستؤول اليه الأوضاع الاقليمية وتحديداً في الجارة السورية.