من معارك "القصير" إلى الصواريخ على الضاحية الجنوبيّة، إعتمدت المعارضة السورية "تكتيكات" سبق أن اعتمدها "حزب الله" بنجاح في معاركه مع العدوّ الإسرائيلي. كيف ذلك؟
في "القصير"، فشلت الغارات الجويّة الكثيفة، والقصف المدفعي والصاروخي العنيف، في إسقاط "القصير" بشكل كامل بالسرعة التي كانت متوقّعة من قبل القوى المهاجمة. وحتّى لوّ أنّ الحصار المفروض عليها يجعلها ساقطة عسكرياً، إن لم يكن في القريب العاجل فبعد حين، فإنّ الكلفة البشريّة صارت من اليوم مرتفعة. كما فوجئت الوحدات التي تقدّمت إلى داخل "القصير" بمسلّحين يظهرون بشكل مفاجئ من مناطق سبق أنّ تمّ "تنظيفها" – بحسب التعبير المستخدم في المفهوم العسكري. وأسباب التأخّر في الحسم الشامل على الرغم من الهجمات الكثيفة، تعود إلى إعتماد أنفاق عدّة تحت مدينة "القصير" تحمي المقاتلين من الغارات، والأهم تسهّل وصولهم من جديد إلى مواقع سقطت عسكرياً، وذلك لتنفيذ هجمات قاتلة من الخلف على الوحدات المهاجمة. وقام "المعارضون" أيضاً باعتماد أسلوب "قتال العصابات" لجهة القتال التراجعي ضمن مجموعات صغيرة سهلة الحركة والإختباء. كما لجأ مقاتلو المعارضة السوريّة إلى سياسة نصب الكمائن والأفخاخ المتفجّرة، بحيث صار على القوى المهاجمة العمل على كشف هذه العوائق المزروعة في غير مكان، وتفجيرها، قبل الدخول إلى أي منزل أو مبنى أو شارع جديد. وهذا الأمر جعل التقدّم الميداني يستغرق وقتاً طويلاً، تجنّباً لوقوع خسائر بشريّة تضاف إلى العدد الذي يسقط بفعل الهجوم البرّي نفسه. وكل هذه "التكتيكات" الدفاعيّة منسوخة تماماَ من الأسلوب القتالي الناجح الذي كان مقاتلو "حزب الله" قد أرسوا أُسسه في الجنوب اللبناني في الماضي القريب!
بالإنتقال إلى الضاحية، فالصواريخ الصغيرة التي سقطت لا توازي "نقطة في بحر" الغارات العنيفة التي نفّذها الطيران الإسرائيلي في "حرب تمّوز" سنة 2006، من حيث حجم الإصابات والخسائر الماديّة. لكن التأثير المعنوي لهذا القصف العشوائي كبير، وكبير جداً. وهو يوازي حجم التأثير المعنوي لأيّ صاروخ كان يستهدف المستعمرات الإسرائيلية من قبل الأفواج الصاروخيّة التابعة لـ"حزب الله". فهذا النوع من الضربات ضدّ المدنيّين يؤدّي إلى بلبلة شعبيّة كبيرة، وإلى إنعكاسات سلبيّة جداً على القطاعين السياحي والإقتصادي. ولا شكّ أنّ المعارضة السورية، التي باتت تملك خلايا عسكريّة عدّة في الداخل اللبناني، قادرة على نصب صاروخ من هنا وصاروخ من هناك، وتوجيهه إلى أهداف مؤذية، أكانت تجمّعات شعبيّة أو منطقة جغرافية حسّاسة، أو ربما حتى مرفقاً حيويّاً مثل مطار بيروت على سبيل المثال لا الحصر. فأيّ خليّة صغيرة يمكنها التحرّك ليلاً ونصب بعض الصواريخ في أيّ منطقة حرجيّة، وتوجيهها نحو أحد هذه الأهداف المذكورة أعلاه، قبل الفرار إلى مكان آمن. وهي سُتدرج هذه العمليّات ضد المدنيّين الآمنين، والتي لا يمكن أن تُصنّف إلا إرهابيّة، في خانة الردّ على التدخّل العسكري لمقاتلي "حزب الله" في سوريا، وما ينجم عنه من قتلى ومن دمار ومن تغيير للمعادلات الميدانية في الصراع المفتوح بين النظام السوري والمعارضة المسلّحة. وبقدر إحتمال تورّط المعارضة السورية المقسومة على نفسها في الهجوم الصاروخي على الضاحية، حيث صدرت مواقف تتبنّى بشكل غير مباشر الهجوم وأخرى تنفي، تبقى إحتمالات أخرى قائمة، ومنها إيجاد ذرائع وتبريرات لتدخّل أكبر في سوريا وربّما في مناطق محدّدة في لبنان، ومنها أيضاً إحتمال تحرّك عملاء لخلايا إستخباريّة إقليمية أو دوليّة، لرفع أجواء التوتّر ونسبة الإحتقان المذهبي والسياسي أكثر فأكثر في لبنان.
وفي كلّ الأحوال، بإمكان أيّ مراقب ملاحظة المنحى التصاعدي المتواصل، لحجم التدخّل اللبناني في سوريا، ولحجم إرتداداته على الساحة الداخليّة أيضاً. فالمسألة بدأت باتهامات إعلاميّة، ثم صارت عبارة عن تحرّك مجموعات صغيرة نحو الداخل السوري، منها يناصر النظام ومنها يعارضه، لتصبح بعد ذلك تدخّلاً كبيراً لمقاتلي "حزب الله" في معارك سوريا، في مقابل دعوات "جهاديّة" من مشايخ سُنّة "للدفاع عن أهلهم في سوريا"، يستجيب لها بعض الشبّان المُندفعين من هنا وهناك. وحجم الردّ تدرّج من التهديد، إلى قصف وغارات على مناطق حدوديّة، ثم إلى قصف لقرى في الهرمل، وصولاً إلى سقوط صواريخ في الضاحية الجنوبيّة أخيراً، مع الترويج لإشاعات بإحتمال تنفيذ تفجيرات إرهابيّة أيضاً، ليتحوّل أمن لبنان عندها لشكل مشابه لأمن العراق!
وبالتالي، إذا كان الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله قد قال بصراحة في خطابه الأخير إنّه إذا كان لا بدّ من مواجهة فلتكن على أرض سوريا وليس في لبنان، فإنّ لا شيء يحول دون أن ينقل الجانب الآخر المعركة إلى العمق اللبناني، ليس عبر مواجهة تقليديّة في ظلّ إنعدام توازن القوى، لكن من خلال ضربات هنا وهناك يذهب ضحيّتها المدنيّون الآمنون، ويدفع ضريبتها كل لبنان من إستقراره، سياحته وإقتصاده. ولا شيء يمنع أيضاً أن تؤدّي التطوّرات الميدانية المأزومة في سوريا، وتدخّل "الحزب" المتزايد فيها، إلى إنتقال هذه المعركة تلقائياً إلى لبنان، إن لم يكن في الغد القريب، فبعد حين، لأنّ القاعدة تقول: "من الممكن معرفة كيف تبدأ المعركة، لكن لا أحد يعرف كيف تنتهي"!