تضامن طرابلسيون أمس مع الشيخ أحمد الأسير. أنزلوا صورة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، ورفعوا مكانها صورة الشيخ المتواري عن الأنظار. وفي الطريق إلى التضامن، كانت شوارع طرابلس تحت حكم السلاح

عاشت طرابلس أمس «يوم غضب» جديداً، شبيهاً إلى حدّ ما بـ«يوم الغضب» الشهير الذي رافق تسمية الرئيس نجيب ميقاتي رئيساً للحكومة في 25 كانون الثاني 2011، مع فارق ملحوظ في الجوهر والشكل والتداعيات. ومع أن العامل المشترك بين يومي الغضب هو رد الفعل العنيف والفوضوي الذي أساء إلى طرابلس على كل الصعد، فإن بقية العوامل كانت متباينة إلى حدّ بعيد.

يوم الغضب السابق كان يهدف إلى «رد الاعتبار» للرئيس سعد الحريري والتضامن معه بعد «الانقلاب» عليه، واكبه نزول بعض السياسيين إلى جانب الجماهير التي اعتدت لاحقاً على كل ما صادفته في طريقها. أما أمس، فإن السياسيين غابوا عن المشهد، تاركين الميدان لمجموعة من الجماهير والمسلحين الذين جعلوا أجواء الرعب والقلق والخوف تخيّم فوق طرابلس، تحت شعار التضامن مع الشيخ أحمد الأسير.

ففي غضون 5 أيام، عاشت طرابلس انفلاتاً أمنياً لم تعهده منذ الحرب الأهلية، وذلك على خلفية أحداث صيدا والاشتباكات التي دارت في عبرا بين الجيش اللبناني ومناصري الأسير، حيث أعادت مشاهد أمس إلى أذهان الطرابلسيين المشاهد التي لا تزال طازجة في ذاكرتهم، بعدما شهدت مدينتهم يوم الاثنين الماضي انفلاتاً أمنياً مشابهاً.

يوم التضامن هذا كان قد أُعلن مساء أول من أمس، من خلال بيانات وملصقات ومكبرات للصوت جالت في أنحاء المدينة تدعو إلى المشاركة في صلاة جمعة جامعة ستقام في مسجد طينال، «تضامناً مع أهلنا في صيدا» حسب ما جاء في بيان دائرة أوقاف طرابلس، وأن أمين الفتوى في دار إفتاء طرابلس الشيخ محمد أمام سيخطب في المصلين.

أغلب المساجد الخاضعة لدار إفتاء طرابلس التزمت الأمر، لكن باقي مساجد طرابلس التي تشرف عليها تيارات وهيئات وأحزاب إسلامية كان التفاوت في تجاوبها مع الدعوة بارزاً، ما دفع مصدراً إسلامياً مطلعاً إلى التوضيح لـ«الأخبار» أن «من شاركوا في تحركات أمس كانوا يحاولون اغتنام المناسبة لوراثة جمهور الأسير قبل أن يُعرف مصيره ويُدفن، وأن أغلبهم كان يرفع شعار المزايدات في زمن المشاحنات».

وأشار المصدر إلى أن «تحركات أمس شابها الكثير من التناقض؛ لأن عدداً من الجهات المشاركة فيها سبق أن رفضوا التعاون مع الأسير وتحفّظوا على نشاطاته السابقة».

وسط هذه الأجواء، كانت شوارع طرابلس تشهد تراجعاً كبيراً في حركة السيّارات والمواطنين قبل موعد صلاة الجمعة، حيث غادرها أغلب زائريها من بقية المناطق، بينما سارع أهلها إلى مغادرتها نحو مصايفهم في الجبل أو البحر، أو العودة إلى منازلهم، مفضلين حتى عدم الذهاب إلى المساجد لتأدية صلاة الجمعة.

ومع أن بعض المراقبين عبّروا عن ارتياحهم من إقامة صلاة الجمعة الجامعة، لكونها ستؤدي إلى «امتصاص نقمة الشارع واحتوائه»، فضلاً عن أن من سيلقي خطبة الجمعة هو أمين الفتوى في الشمال الشيخ محمد إمام «المعروف باعتداله وأنه يُحسن إمساك العصا من وسطها»، على حدّ قولهم، فإنهم تخوّفوا مما قد يعقب الصلاة من انفلات جماهيري وأمني إذا خرجت الأمور عن السيطرة.

وفعلاً، كان حدس هؤلاء في محله؛ إذ قبل أن يُنهي الشيخ إمام خطبته التي وُصفت بـ«بالهادئة والعاقلة والمتزنة»، حتى سارع بعض المصلين الذين كان بعضهم مسلحاً بالأسلحة الرشاشة وقذائف الـ«آر بي جي»، إلى مقاطعته وإطلاق النار في الهواء، مطلقين هتافات تحريضية ضد الجيش اللبناني وحزب الله، من غير أن تفلح الجهود التي بذلها بعض المشايخ في تهدئتهم، قبل أن يتوجهوا إلى ساحة عبد الحميد كرامي المجاورة لتنفيذ اعتصام فيه، كان قد دعا إليه بعض الأحزاب والشخصيات الإسلامية.

ومع توافد بعض الجماهير إلى الساحة للمشاركة في الاعتصام، كانت وتيرة الأجواء السياسية والمذهبية الحادة ترتفع، بالتزامن مع قيام بعض المعتصمين بمنع وسائل الإعلام من التصوير وتغطية الاعتصام، وملاحقتها حتى خروجها من طرابلس، فضلاً عن تكسير كاميرات مراقبة كانت موجودة في محيط الساحة، وإطلاقهم الرصاص بكثافة في الهواء.

وشهدت السّاحة كذلك حدثاً للمرّة الأولى من نوعه، هو إنزال صورة للرئيس سعد الحريري كانت موجودة في الساحة ورفع صورة للأسير مكانها، وهو أمر أثار تساؤلات عما إذا كان هذا التصرف حقيقياً أو مركباً من قبل البعض لأهداف دعائية وسياسية، في موازاة إغلاق المعتصمين المسلحين منافذ الساحة الثمانية، وتجوال بعضهم على دراجات نارية في مختلف شوارع المدينة، حيث أطلقوا النار في الهواء وأجبروا أصحاب المحال التجارية على إغلاق أبوابهم.

وتمدّد حراك المعتصمين والمسلحين إلى خارج المناطق التي كانوا يتجوّلون فيها سابقاً، إذ بعدما اعتدوا على نصب لشهداء الجيش اللبناني في مستديرة السلام عند مدخل طرابلس الجنوبي، عمدوا إلى قطع الطريق الدولية التي تربط طرابلس ببيروت في نقاط عديدة جنوب المدينة، وصولاً إلى أطراف الكورة، فضلاً عن قطعهم مداخل طرابلس لجهة زغرتا والضنية والمنية وعكار، ما جعل أوصال طرابلس مقطعة ومعزولة عن محيطها بالكامل، وعزلت كذلك أحياؤها بعضها عن بعضها.

ودفع تدهور الأمر على هذا النحو الجيش اللبناني والقوى الأمنية إلى الانسحاب من الشوارع التي بدت خالية، والتزمت مراكزها، في موازاة إغلاق عناصر من قوى الأمن الداخلي أبواب سرايا طرابلس واتخاذ إجراءات أمنية مشددة في محيطها، فيما عمل الجيش اللبناني على الحواجز التي نصبها عند مداخل المدينة، على توجيه عناصره المتوجهين إلى طرابلس لأخذ الحذر أثناء الدخول إليها، خشية تعرّضهم لاعتداءات كما حصل في الأيام الأخيرة.