رغم كل التباينات والخلافات التي زعزعت أسس التفاهم بين التيار الوطني وحزب الله، لا يزال العونيون يبررون ما يحدث بـ«دليل عافية». بنظرهم، ما يربطهم استراتيجياً بالحزب أقوى من أن تبدده بعض الغيوم السوداء، ولكن ذلك لا يلغي رغبتهم في الانفتاح على السعودية وما يشابهها: من المفيد عودة ميشال عون إلى وسطيّته

عندما أسقط رئيس تكتل التغيير والإصلاح، النائب ميشال عون، خطوط تماس الحرب الأهلية، عبر ورقة تفاهم حملت توقيعه إلى جانب توقيع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، كان يدرك جيداً أن حبر التفاهم لن يجفّ بالسرعة التي راهن عليها كثيرون. يومها، لم يستند عون في حساباته إلى مصالح سياسية أو ربح انتخابي، بل «آثر صون المقاومة»، رغم الخسارة المسيحية التي تكبدها في انتخابات 2009 جراء هذا التحالف. وبعد ثماني سنوات ونصف على الوعد المخطوط، لا يزال عون في موقعه الداعم لاستراتيجية المقاومة والصراع مع إسرائيل. ما سبق، لن تغيره آلاف اللقاءات مع السفير السعودي أو السفيرة الأميركية ومئات التباينات السياسية بين التيار والحزب، يقول رجال الرابية. ولكن ذلك لا يعني أن التزام رئيس التكتل بالخطوط العامة ينعكس إذعاناً لسياسات الحزب الخاصة ومصالحه، ولا يلزم عون بأي قرارات من خارج مبادئه واقتناعاته.

فسرُّ نجاح التحالف وديمومته ينبع في المقام الأول من حرية الحليفين واحترامهما لخيار واحدهما الآخر.

نالت اقتناعات «القائد» وخطواته استحساناً سريعاً لدى أكثرية القاعدة البرتقالية، مقابل أقلية ممتعضة تركته خلال الأشهر الأولى. وذلك لم يؤثر في طريق الرابية المُعبّد بدقة ولا تسبب بانعطافة طارئة لإعادة جرد الحسابات. ساند العونيون «جنرالهم» وشرعنوا خطواته حتى خلال الأزمات، ولا يزال هؤلاء عمود عون الفقري ومنبع قوته. واليوم، على الرغم من الاختلافات الحديثة التي زحزحت أركان التفاهم، كانوا هم السبب الرئيسي في عدم انفراط عقد التحالف، رافضين التخلي عن المقاومة، مهما علت الحواجز. والأمر لا يسري على حزب الله فقط، إذ لا يرى الشباب العلمانيون في انفتاح التيار على السعودية أي عائق، بل على العكس. برأيهم، عاد الجنرال إلى موقعه الطبيعي كوسطي حاضن لمختلف الطوائف وناسج التفاهمات في ما بينها.

العونيون: بري مشكلتنا

يشير الناشط العوني المحامي ربيع معلولي، من بلدة رشميا في عاليه، إلى ضرورة عدم الربط ما بين التباينات الأخيرة مع حزب الله وزيارة السفير السعودي للرابية، مطمئناً «المصطادين في الماء العكر: التفاهم في أحسن حالاته». إنما ذلك «لا يمنعنا من الوقوف إلى جانب عون في انفتاحه على السعودية وأي دولة أخرى إذا كان الأمر يحمل مصلحة للبنان بعيداً عن المصالح المادية التي لا تعنينا». ماذا عن «خذل» الحزب لعون في معاركه السياسية؟ يعقب معلولي: «لدينا تحفظات على سلوك حليفنا في ما خص التمديد لمجلس النواب والآن لقائد الجيش، إنما ليس الأمر بالسوء الذي يظنه البعض، لكلّ خياراته واقتناعاته، والاختلاف لا يحمل طابعاً شخصياً».

رأي معلولي يتعدّى أفكاره الشخصية ليشمل عدداً كبيراً من الشباب العوني. عندما يكون الحديث عن العلاقة بين حزب الله والتيار الوطني الحر، يصبح الإجماع ضرورياً: «علاقتنا تتخطى السياسة، حلفنا استراتيجي قوي مهما بلغت حدة التباينات». يهم جورج ذكي الحاج (أستاذ في الجامعة اللبنانية _ كلية الآداب) أن يوضح للرأي العام أن العلاقة الثنائية لا تشبه أبداً علاقة مدير عام بموظف أو ضابط بفريقه العسكري، بل هي مبنية على «أسس استراتيجية عميقة وتصور مشترك لدولة قوية». إذاً «لا مجال للتراجع رغم التمايز، فرؤيتنا مشتركة خلافاً للتحالفات السياسية الأخرى التي لا تشترك إلا بكرهها لجهة معينة». أما الانفتاح العوني ـــ السعودي، فذلك «ضروري لأننا تيار غير فئوي وغير منخرط بالصراع الطائفي، بل يسعى إلى تداركه وإخماده في لبنان». وعلى عكس معلولي، يتفهم الحاج معارضة عون التمديد لقائد الجيش من الناحية الدستورية وكونه «رجلاً مبدئياً»، إنما يرى أن الواقع الأمني يفرض هذا التمديد ولو كان ذلك «مخالفاً لاقتناعاتي». من جهته، لم يشعر منسق التيار في جبيل غابي عبود بالتباعد أو الجفاء، ولا سيما أن قضاءه يفرض عليه احتكاكاً يومياً بجمهور حزب الله، «علاقتنا بمناصري الحزب سابقة للتفاهم الذي ساهم لاحقاً في تمتينها. رغم ذلك، إعادة تقويم العلاقة واجبة من أجل الاستمرار لأن مواقف الحزب الأخيرة ومسايرته لحليف حليفنا على حسابنا أوجعنا». كلام يشاركه فيه مسؤول لجنة البلديات في التيار مالك أبي نادر، الذي يحصر المشكلة «بحركة أمل لا بحزب الله. فالحزب كي لا يختلف مع بري يضطر أحياناً إلى مواجهتنا. والواقع أن بري يريد أن يأخذ كل شيء ولا يعطي بالمقابل، يريد نسج العلاقات مع الأحزاب المسيحية الأخرى على حسابنا. ربما عاد إلى استراتيجيته القديمة: اللعب مع الماروني الضعيف». الانتقاد السابق لا يلغي «التزامنا استراتيجياً مع المقاومة التي يحتاج إليها لبنان حتى الساعة». من جهته، يشير مسؤول ماكينة التيار الانتخابية طوني مخيبر إلى «أننا لن نقبل بفرط التفاهم مع حليفنا الأساسي، إلا أن صيانة العلاقة تتطلب تنسيقاً دائماً وخلق لجنة مشتركة على مستوى الحزبين تبحث في الشؤون السياسية بشكل دوري». وهنا لا يضر الانفتاح على الدول والأطراف الأخرى «وأقول للجميع أن لا يستغربوا إن تقاربنا مجدداً مع تيار المستقبل، فنحن أصلاً كنا من أوائل من نصب خيمة في وسط بيروت عام 2005، ونحن أساس قوى 14 آذار».

«خلاف لا اختلاف»

في المقابل، هناك من يسأل عن الغاية من تضخيم الزيارة السعودية للرابية وتجريدها من معانيها عندما تحدث لدى الأحزاب الأخرى ومنها قوى 8 آذار. «لماذا يغلق عون الأبواب بوجه السعودية هو وحده؟»، تسأل المحامية مي خريش. بنظرها، «نحن بأمسّ الحاجة اليوم إلى من يمتص الاحتقان الطائفي والتوتر المذهبي في البلد، والجنرال هو الشخصية الأفضل للعب هذا الدور على المدى البعيد». تنطلق خريش في حديثها عن حزب الله من قاعدة أن الحزب «فشل في السياسة الداخلية في كثير من الأحيان، الأمر الذي كان ينعكس سلباً على حلفائه». ولكن ما حدث ليس «خلافاً، بل اختلاف، وذلك يغني العلاقة ويثبت جرأة عون في الاعتراض على المغالطات وحرية تغريده خارج سرب تحالفه، ونحن نؤيده في المبادئ الدستورية لأن على اللعبة الديموقراطية أن تأخذ مجراها... إنما سنصل إلى نقاط التقاء مجدداً». ولكن على المقلب الآخر، هناك خلافاً لمعلولي والحاج وخريش من لم «يبلع» ورقة التفاهم حتى الساعة، ولا يرى فيها اقتناعات أو مبادئ أو حتى مصالح مشتركة. يارا باسيل، من كسروان، واحدة من العونيين الرافضين لحلف التيار ـــ حزب الله: «لم أؤيد يوماً الاستراتيجية العونية بالتفاهم مع حزب الله، ولكن أدرك جيداً أن عون يعطي الفرص للجميع. اليوم لم يعد من الممكن السكوت بعد ما أثبت الحزب أنه لا يستحق الفرصة التي منحت له. أرى في التواصل مع السعودية استراتيجية جديدة، ربما تكون أفضل من سابقتها، وخصوصاً أن من الضروري أن يعود الجنرال إلى وسطيته الطبيعية».

على الصعيد الشبابي، يوضح رئيس لجنة الشباب في التيار الوطني الحر، أنطون سعيد، أن التباين السياسي بين الرابية والضاحية الجنوبية ينتقل في كثير من الأحيان إلى قلب الجامعات، والدليل ما حصل في الجامعة الأنطونية منذ مدة. ولكن تلك التباينات «تقف عند خطوطها الحمراء ولا تترجم خلافاً فعلياً على أرض الواقع، ونحن نخوض كل معاركنا الطلابية الانتخابية جنباً إلى جنب». حتى في عزّ خلافاتهم مع حزب الله، يعرف العونيون جيداً كيفية الموازنة بين أخطاء حليفهم وإيجابياته حين يتطلب الأمر موقفاً حازماً، كمواظبته حتى النهاية في دعمهم بمشروع قانون اللقاء الأرثوذكسي مثلاً. يقارنون بين موقف الحزب وموقف حلفاء خصومهم ليدركوا سريعاً أن تفاهمهما يتعدّى إطار الصورة التي جمعت قائدهم بالسيد نصر الله في كنيسة مار مخايل. هو تحالف استراتيجي، وطني، مبدئي ووفقاً لاقتناعاتهم واقتناعات الجنرال، إنما لا يستطيعون السكوت عن «الشواذ» عندما يلمسونه بأيديهم. ينطلقون من مقولة عون لتبرير «انتقاداتهم البناءة» وتأريخ مواقفهم: «عندما يجتمع الكل على باطل، يصبح الباطل حقاً، ولكن سأقول لا، كي يبقى هناك من يطالب بالمحاسبة بعدها».

تيار الشمال: الانفتاح السعودي يريحنا

لعونيّي طرابلس وعكار رؤيتهم الخاصة للعلاقة بالسعودية، تختلف عن تلك لدى ناشطي جبل لبنان. لم يتأثر هؤلاء مباشرة بالتفاهم، إذ لا تماس مع حزب الله حيث يقطنون، لذلك لم يشعروا بالجفاء المستجد. ولكن عندما يتعلق الأمر بالتقارب العوني ـــ السعودي، يصبحون أول المعنيين بحكم التداخل بينهم وبين جمهور تيار المستقبل المؤيد للسعودية. لم يستطع هؤلاء تقويم انعكاسات الزيارة في الوقت الراهن، «فطرابلس مخطوفة». ولكن وسط الجمهور الطرابلسي، «سينعكس التفاهم مع السعودية ارتياحاً على قاعدتنا»، يقول منسق طرابلس في التيار الوطني الحر طوني ماروني. والأمر بحسب ماروني لا يعدّ خروجاً عن أطر وثيقة مار مخايل، فالنائب ميشال عون دعا وقتها جميع الأحزاب للانضمام إلى تلك الوثيقة. من جانبه، يثني مسؤول التيار الوطني الحر في عكار جيمي جبور على هذا الانفتاح المستجد، وخصوصاً في الظروف الراهنة «للمحافظة على دورنا». لم يلمس جبور تغيراً في الأجواء العكارية صباح الزيارة، ولكن من المؤكد أن «الإنجاز مريح سياسياً وشعبياً وسيؤثر في سلوك الآخرين تجاهنا، علماً بأننا لم نقطع علاقتنا يوماً بالفاعليات السنية ورؤساء البلديات ودار الإفتاء والجماعة الإسلامية، فالتواصل بيننا قائم».