للاقطاعية في لبنان تاريخ عريق، لم يأفل نجمها بعد من بلدنا رغم تقدم الديمقراطيات في العالم، فهي للاسف، حسب ما يعرف عنها، دائمة التألق في النفوس منذ العصور الغابرة وفي زمن الامارة مرورا بعهد المتصرفية والى ما قبل الاستقلال وما بعده وحتى لحظة كتابة هذا المقال.

لا شك، ان ظاهرة التمديد التي نشهدها اليوم تشكل مشهدا منمّــنـقا في مظهره ولكنه لا يختلف في جوهره عما هو معروف بالاقطاعية، او بمنطقة نفوذ او تسلط على بقعة من بقاع الوطن او على كل الوطن اذا كانـت مصالح المتسلطين يجمع بينها قاسم مشترك واحد. اضف الى ذلك، ان هذا الاقطاع الحديث المظهر قد اخذ بعدا آخر في نموه وانتشاره المتمدد بضراوة عبر الرئاسات والوزارات والمؤسسات وسائر المراكز الحساسة وغير الحساسة في الدولة.

لا أدعي هنا باني اقول شيئا جديدا، ولكنه من العسير العسير على شعب كالشعب اللبناني ان يمضي قدما في ركب الحضارة والثقافة والحرية والمساواة بظل هكذا جو اقطاعي متطور تسود فيه روح الغلبة والتغالب وتقاسم الغنائم والتنازع الحاقـد والبغيض على السلطة، بل قل على النفوذ الاقطاعي داخل السلطة وخارجها.

ولا اغالي في القول، ان الطائفية في لبنان لا تعدّ شيئا مذكورا امام سلطة الاقطاع، كونها مسخّرة ومسيّرة بحسب مشيئة ما يسمى "بالاقطاعجيه"، فهم يهولون بها كلما لامس التضييق اماكن ومناطق نفوذهم، ويخفون اسمها كلما كان الامر مستـتـبا لهم.

وها نحن نشاهد اليوم "غريزة الاقطاع" تنهش في جسم الوطن تحت ستار ديمقراطي اسمه التمديد!! نعــم تمديد اعضاء مجلس النواب لانفسهم (!) وغدا، حسب ما نسمع، التمديد في الوظائف العامة... وبعدها التمديد، ربما، لرئيس الجمهورية وهكذا دواليك حتى يهج آخر لبناني شريف من لبنان، دون ان يدركوا، على الارجح، مدى خطورة هكذا تصرفات غاصبة ومدمّرة لشكل الحكم في لبنان ولمصير الوطن واهله، ودون ان يتعلموا من تجارب الماضي التي نذكر منها: عهد الرئيس الشيخ بشاره الخوري كان التمديد تجربة مرة له ادت الى تخليه عن الحكم رغم وجود اكثرية نيابية ساحقة الى جانبه، وعهد الرئيس كميل شمعون كان لهاجس التمديد نتائج غير مرضية ابدا، وعهد الرئيس امين الجميل كانت فكرة التمديد حاضرة حتى ربع الساعة الاخيرة من عهده، وفي عهدي الرئيسين الياس الهراوي واميل لحود كان التمديد لهما انتكاسة دستورية ومعنوية صارخة لعهديهما.

اما الرئيس فؤاد شهاب فقد رفض التمديد بصورة كلية رغم توافر الاجماع من حوله، لانه كان يعرف تمام المعرفة ان التمديد هو خرق ديمقراطي فادح ولم يستطع احد استدراجه اليه، وفي هذا السياق نستذكـر الرئيس الياس سركيس بزهده وترفعه عن فكرة التمديد بحيث خلفه الرئيس بشير الجميل والبلاد في تلـك الآونة كانت في احلك ظروفها الامنية.

احترم الرئيس فؤاد شهاب الدستور الذي كان يسميه "الكتاب"، احترم قواعد اللعبة الديمقراطية فكان في آدائه مثالا يحتذى به، الا ان سياسة الاقطاع في البلاد ابت ذلك، وبدل ان تحذو حذو الرئيس شهاب اخذت من التمديد للشيخ بشارة الخوري قاعدة لعملها واعتبرته سابقة او اجتهادا رغم ان الرجل كفر بالتمديد قبل نهاية عهده الممدد فوقّع على استقالته وجعل الانقلاب ابيض وتمنى للبنان العز والمجد وكانت وصيته والكلام للشيخ الرئيس: "ان يحافظ اللبنانيون على قدسية ميثاقهم الوطني الذي لا حياة لهم بدونــه"، وهذا العرف الدستوري الارتكازي قد دلت عليه الفقرة (ي) من مقدمة الدستور التي تنص: " لا شرعية لاي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك".

ولا يخفى ان الدساتير هي حياة الشعوب الحرة الكريمة، هي نقيض العبودية والاقطاعية والاستبداد، بل هي من نسيج مقدس يكاد لا يمس الا اذا كان هناك تعديل يعبّر فعلا عن طموح اسمى للشعب، هذا هو مفهوم الدستور في العالم الحر، فهل نستحقه؟ وبهذا الصدد قال فيكتور هوغو:

« Les constitutions sont faites pour être violées car elles ne crient pas ».

" ان الدساتير وضعت كي تغتصب كونها لا تصرخ"، والمقصود هنا، بقول هوغو، ان الدساتير قد وضعت لشعوب تصرخ اذا ما اغتصب حقها الدستوري، ولا اعتقد ان الشعب اللبناني، اليوم او غدا او بعد غد سيقبل بانتهاك ساسته، او بالتحديد اقطاعييه لحقوقه الدستورية، وننوه بالقول، ان لا الوضع الامني ولا الخلاف على قانون انتخاب جديد ولا التحجج بسلامة الشعب تشكل اسبابا تبرر تأجيل الانتخابات الدستورية، فهذا تقهقر وانهزام وتمزق وانهيار بحق الامـة جمعاء، وهذا الحدث الانتخابي لو حصل في موعده لكنا حققنا به نصرا مبينا يفوق باضعاف واضعاف اي نصر آخر. ونذكركم يا ايها الساسة الكرام ان الاجماع او شبه الاجماع الذي حصل في جلسة التمديد لانفسكم يشكل اثباتا دامغا ضدكم ويدين تصرفكم الخارق للدستور لان هذا الاجماع نفسه يحقق الهدف الانتخابي لو اجمعتم حوله، ولكنكم احتكرتم ارادة الشعب وحبستم عنه حقوقه واغتصبتم السلطة منه، وهذا اقصى حدود الخيانة الدستورية للنظام الديمقراطي. ولا استغرب، بعد كل ذلك، عدم استقالة ولو نائب واحد عن مقعد النيابة، وكأن قبة البرلمان كتبت باسمكم ولكم ولبنيكم من بعدكم. لا يا ايها السادة، ان آفـة التمديد وآفـة الخلفية في السلطة والاقطاع يجب وضع حد لها عن طريق مبدأ عدم التكرار في تولي رئاسة مجلس النواب ومجلس الوزراء والوزارة والنيابة على غرار ولاية رئيس الجمهورية غير المتكررة والغاء الجمع بين الوزارة والنيابة عملا بمبدأ فصل السلطات وذلك، كي نبدأ، كمرحلة اولى، في هدم الاقطاعية من الحياة السياسية في البلاد، وان الازمات الامنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والادارية والمالية والفقر والتجويع والى آخر المعزوفة التي نشاهدها يوما بعد يوم بشكل حاد وخطير تفيد بشكل قاطع بأن الطقم السياسي الموجود قد فشل فشلا ذريعا في ادارة البلاد.

واختم بالقول: اياكم وآفـــة التمديد، فكتابنا اي دستورنا يرفضه رفضا قاطعا، وان تمديد اعضاء المجلس النيابي الحاليين لانفسهم قد ترك اثرا سيئا لا يمحى من خاطرة الشعب اللبناني بل سيبقى محفورا في الاذهان كوصمة عار على جبين الديمقراطية جيلا بعد جيل، وباعتقادي ان هكذا صفعة لصاحب السيادة قد دخلت ذاكرة التاريخ ولن تمر مرور الكرام وكأن شيئا لم يحصل وعلى وتيرة: قل ما تشاء ونحن نفعل ما نشاء.