اعتبر إلغاء اللقاء المقرر نهاية أيلول المقبل، بين الرئيس الأميركي باراك أوباما، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، بمثابة "الهزّة" التي هوتْ بالعلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا، إلى أدنى مستوياتها، على الأقل منذ وصول أوباما إلى السلطة عام 2008.

لقد كان التبرير حول التقدّم "الطفيف" سبباً لإلغاء الزيارة، إنما ليثبت عمق الخلافات بين البلدين، حول مواضيع كثيرة ليس آخرها منح روسيا اللجوء السياسي للمستشار السابق في الاستخبارات الأميركية إدوارد سنودن، والذي أعاد فتح ملف "حرب الجواسيس" غير المعلنة بين البلدين واستعادة صورة ما يشبه "الحرب الباردة"، التي طبعت العلاقات بينهما في منتصف القرن الماضي.

كان من الطبيعي أن تتلقّف موسكو طلب لجوء سنودن إلى أراضيها، خاصة بعد تسريب معلومات حول امتلاكه وثائق خطيرة، تهدّد بتعريض علاقة الولايات المتحدة مع كثير من الدول الحليفة لها، وذلك على خلفية ممارسة نشاطات استخبارية تحت ذريعة "مكافحة الارهاب"، الاّ أنها قد تكون وصلت إلى ما يسمى "بالتجسّس الاقتصادي والمعلوماتي" على بعض الدول، وهذا ما أكّدته صحيفة الغارديان بأحد المقالات التي نشرتها، عن تسريب ما يوازي عشرين ألف وثيقة تفصيلية ومطوّلة حصلت عليها من سنودن، وهو ما قد يحرج الولايات المتحدة أمام المجتمع الدولي وأصدقائها وحلفائها أيضاً.

من المعلوم أن جدول الأعمال الثنائي المطروح للبحث بين روسيا وأميركا، والذي بسببه اجتمع الطرفان بعدة لقاءات جانبية في عدد من الدول، إنما يشمل مواضيع خلافية كثيرة، بدءً من منظومة الدفاع الصاروخي، والانتشار النووي، والتجارة ومسائل الأمن العالمي وحقوق الإنسان.. "والشرق الأوسط، الملف النووي الإيراني، والأزمة الكبرى في سوريا".

ويأتي هذا التعثر في المفاوضات بين الدولتين، ليهدد بفتح جبهات تتخطى مجرد "الكباش" في بعض الساحات، ليزداد سخونة قد تؤدي تفجيراً في ساحات أخرى، وذلك في محاولة للضغط على الآخر كل في ملعبه وعلى أرضه.

وبهذا السياق يبدو الملف السوري الأكثر جهوزية لخوض هذا "الكباش"، وقد ظهر ذلك في الإخفاق الأميركي - الروسي للتحضير لمؤتمر "جينيف 2" حول سوريا، والاتفاق على المواعيد وقائمة المشاركين، رغم تردد الحديث حول اجتماعات بنّاءة حصلت بين الطرفين للتحضير لهذا المؤتمر، إلاّ أنه وفي ظلّ هذا التدهور الحاصل يبدو أن "جينيف 2" أصبح بعيد المنال نسبياً ومعه أيضاً رؤية الحل للأزمة السورية، والتي يبدو أنها ماضية في مسارها العسكري، حيث تحاول كل الأطراف استعجال تسجيل نصر ما على الأرض حتى يحين موعد تحقيق تسوية معينة... فيما لو نضجت ظروفها قريباً.

هذه التسوية "المفترضة" والتي يصعب تحقيقها حالياً لأنها تتطلب أكلافاً باهظة، قد يكون إحدى أثمانها الوجود الروسي في المنطقة، وضرب ما حاولت روسيا الاتحادية إعادة بنائه من منظومة اقتصادية وسياسية وأمنية لها في منطقة "الشرق الأوسط" بعد انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، وهو ما يُلحظ من خلال التشبّث الروسي بحلفائها الأساسيين في المنطقة خاصة سوريا، إيران، ومحور المقاومة.

ومن أجل تحقيق التوازن المفروض عسكرياً، فإن الحديث يتقدّم بين فترة وأخرى عن تزويد روسيا لنظام الرئيس السوري بمنظومة صواريخ أس 300، ورادارت متطورة لصواريخ "ياخونت"، وأيضاً في إطار ما يسمى بـ "لَيّ الذراع" الذي ينتهجه النظام الروسي، مقابل الضعف والتردد الأميركي حول تسليح "المعارضة السورية" والتي يعتبرها الأميركيون وجهاً من وجوه "المجموعات الجهادية" المقرّبة من القاعدة.. والتي تشكّل التهديد الرئيسي الأول لأمن الولايات المتحدة.

ولعلّ انتهاج أسلوب التهديد تارة والترغيب تارة أخرى، قد تقدّم إلى الواجهة منذ فترة، بعد تسرّب معلومات دبلوماسية عن عرض سعودي لروسيا- رغم النفي الروسي – لهذا العرض يطلب فيه رئيس جهاز الاستخبارات السعودية الأمير بندر بن سلطان من روسيا التوقف عن دعم النظام السوري، وعدم عرقلة أي قرار يصدر عن مجلس الأمن لإدانة سوريا، مقابل إتمام صفقة أسلحة روسية للسعودية وتسهيل استمرار تدفق الغاز الروسي إلى المنطقة، وهو ما رفضته القيادة الروسية، واعتبرت أنه لا يتناسب مع مصالح استراتيجية بعيدة المدى، ترسمها روسيا لدورها في الشرق الأوسط، كما أنه يدلّل على مأزق ما تعيشه الدبلوماسية الأميركية، وتحاول الضغط من خلال حلفائها لتغيير موقف موسكو مما يجري تحديداً في سوريا.

إن إلغاء اللقاء الأميركي - الروسي الأخير على خلفية قضية العميل "سنودن"، الذي وصفه الكرملين بقلة الاحترام، وأبدته الولايات المتحدة في تعاملها مع روسيا، ناهيك عن "التنازع" على مقدرّات الخليج، والفجوة العميقة في التعامل مع الأزمة السورية، واستطراداً، النظرة المختلفة للتعاطي مع البرنامج النووي الإيراني، كلّها ملفات تظهر عمق الهوّة في العلاقات بين عملاقي "السياسة الدولية"، وتهدد بإمكانية نزع "القفازات الدبلوماسية" لكليهما، والتحوّل ربما إلى مشهد آخر.. ساخنظن في مكان ما من العالم.