رفض المتعاطون في ملف مخطوفي إعزاز أن يكون لحادث خطف قائد الطائرة التركية ومساعده ايّ مفاجأة. فما لديهم من معلومات يكفي لإنتفاء عنصر الغرابة. فهم كانوا على علم بالتداعيات الخطيرة لما آل اليه الوضع في سوريا وبات الإفراج عن المخطوفين أحد فصولها، وهو ما يعطي عملية جسر الكوكودي أبعاداً اخطر مما يتصوره البعض. لماذا؟ وكيف؟

قبل العملية التي وقعت فجر الجمعة الماضي عند مدخل مطار بيروت الدولي، كانت المراسلات الجارية بين المسؤولين اللبنانيين المكلّفين هذا الملف ونظرائهم الأتراك تحمل كثيراً من المعلومات التي تؤشر الى احتمال وقوع حدثٍ ما لم يتمكن أحد من الطرفين تقديره او الإشارة اليه في ظلّ أجواء التشنج التي عكستها التطورات السورية بوجهيها العسكري والدبلوماسي، ومعها ما يجري على الأرض من عمليات عسكرية يعرف المشاركون من طرفَي النزاع على الأرض الخطوط الحمر المرسومة لكليهما وعدم وجود ما يسمح لأيّ منهما بتحقيق الإنتصار الذي يسعى اليه.

فالمواجهة القائمة على الأراضي السورية من شرقها الى غربها، وفي العاصمة بين المحورين الدوليين بلغت مأزقاً كبيراً، فالمفاوضات الأميركية ـ الروسية التي لامست جدول اعمال أكبر بكثير مما يعتقده السوريون واللبنانيون لم تعد تكترث لما يجري على الأرض بمقدار ما باتت هذه الحرب مناسبة لفتح كثير من الملفات الإقليمية والدولية المدرجة على مساحة التنافس بين الطرفين، وصولاً الى مرحلة اتهم فيها الجانب الأميركي نظيره الروسي بـ "العجرفة" التي لا يمكن القبول بها في ظلّ التوازنات الدولية، وهو ما يسخر منه الجانب الروسي الذي دعا الولايات المتحدة الى التواضع في مشاريعها الدولية والإعتراف بوجود الطرف الآخر.

على هذه الخلفيات، وإنطلاقاً من المعطيات التي أفرزتها المواجهة الديبلوماسية الكبرى بين القطبين الدوليين ينظر المعنيون بالملفات اللبنانية الى مخاطر ما يجري في لبنان لأنّ ما حصل يلامس الخطوط الحمر، وانّ المضي به وكأنه ملف داخلي يعني اللبنانيين فحسب، يسخّف الهدف وعدم القدرة على قراءة المعطيات التي أدت اليه.

ويقول المطلعون إنه وفي حال لم يكن منفذ العملية قادراً على إستثمارها توصلاً الى النهايات التي يريد، يكون قد ارتكب خطأً فادحاً. فعملية الخطف في شكلها وتوقيتها وموقعها توحي بوجود قوّة منظّمة نفذتها وضمنت مسبقاً افضل الظروف لتنفيذها من كل النواحي السياسية والحزبية والأمنية، فضربت ضربتها، أياً تكن النتائج المترتبة عليها. ولذلك فإنّ البحث فيها يفرض قياسها على حجم النزاع القائم في المنطقة لا على قياس الخلافات الداخلية اللبنانية.

وعليه، فإنّ البحث في مخارج الأزمة لا ينبغي أن يتوقف عند المعطيات الداخلية فحسب، فالتحذيرات التي ابلغها الجانب اللبناني الى نظيره التركي قبل ايام والتي تجاهلها المسؤولون الأتراك، دفعت باللبنانيين الى تسجيل نقاط إضافية على الجانب التركي وبات في موقع استكشافي متقدم للحقائق جعلته متفوقاً بأشواط في قراءة مستقبل الأمور وما يمكن أن تؤدي اليه سياسة المماطلة في معالجة ملف المخطوفين اللبنانيين وإستمرار ربطها بنتائج النزاع على سوريا وكأنها سلاح من الأسلحة المستخدمة فيها.

ولذلك، تبقى الإشارة واضحة الى أنّ قدرات الأتراك على المستوى الإقليمي والدولي هي غير قدرات اللبنانيين، وما يمكن أن يتحملوه اكبر بكثير مما يتحمله لبنان، وقد تعطيهم عملية الخطف اسباباً موجبة للتصعيد في المواقف ما يشكل خطراً كبيراً على مصالح اللبنانيين، وهو ما جعل القيادات السياسية والهيئات الإقتصادية ترفع الصوت عالياً مخافة مما هو متوقع من ردات فعل وضعت لبنان في قلب الحدث الإقليمي والدولي.

قد يقول قائل، إنّ في ما سبق تكبير لحجم العملية وابعادها، لكن في الوقت عينه إنّ من يتجاهل هذه القراءة الدولية والإقليمية لما حصل عليه التريث قليلاً ليكتشف ابعادها، عندما سيشهد في القريب العاجل على ردات الفعل عليها ما لم تتوافر معطيات جديدة تؤدي الى كشف مصير المخطوفين بالسرعة التي لا يتوقعها أحد حتى الآن.

وقبل الإستفاضة في التحليل، لا بدّ من الإشارة الى أنّ عملية الخطف تشكّل سلاحاً ذا حدين، أحدهما يعقّد الأمور اكثر من اللازم ويبعد أيّ مبادرة لفك أسر الرهائن اللبنانيين في إعزاز، وآخر يضع لبنان بين فكّي كمّاشة الأزمة الإقليمية والدولية، وفي الحالين ما على اللبنانيين إلّا أن يستذكروا المثل القائل: "إنّ طالب الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه".