ليت لعدسات الكاميرات إمكانية نقل الروائح، وليت للكلمات إمكانية شرح معاناة "حي السهل" السكني في منطقة شكا. معاناة بدأت منذ أشهر قليلة لتزيد على هموم سكان هذا الحي هموما: من انقطاع متكرر للمياه، إلى الطرقات الوعرة، إلى الغبار المتصاعد بشكل دائم من المصانع المحيطة ومن صهاريجها وشاحناتها الخارجة منها والداخلة إليها طوال النهار. فأهالي هذا الحيّ كأنهم يعيشون داخل مصنع كبير... ولكن هذه المرّة، بدأ هذا المصنع الضخم المؤلف من مصانع عدة يحرمهم حتى من النوم ليلاً. والسبب: تصاعد رائحة كريهة "مجهولة المصدر" منذ ساعات المساء الأولى وحتى ساعات الفجر تمنعهم من فتح شبابيكهم ومن ترك الغسيل على المنشر أو حتى من التنزه ليلاً والعودة إلى المنزل في ساعة متأخرة، لأن عقاب هذه الأفعال العادية واحد: الإختناق!

كبريت، مازوت أم كاوتشوك؟

كلّ واحد يصف هذه الرائحة على طريقته الخاصة، فإيلي عازار، والذي يؤكد أنه وجراء عمله في مصانع الإسمنت لسنوات عدّة يميّز "رائحة الكبريت من رائحة الترابة ومن رائحة البتروكوك"، يحتار بماذا يشبّه هذه الرائحة، ويقول: "وكأن أحدهم أشعل إطاراً من كاوتشوك ووقف حيث يتصاعد الدخان منه ليتنشقه". أما محسن مكاري فيرى أنها "كالغاز المنبعث من تنكة المازوت المشتعل"، مشدداً على أن "هذه الرائحة كريهة جداً وتمنعنا من النوم". مكاري، الذي يعاني وإبنه البالغ من العمر 5 سنوات من الربو، يتناول الدواء بشكل مستمر لكي يتمكن من التنفس ويشير إلى أن "ما نعيشه منذ فترة شيء مقرف جداً ولا احد يبالي".

وما هي إلا ثوانٍ من بدء حديثنا مع مكاري حتى تجمع عدد من نساء الحيّ حولنا، وبدأن بتعداد همومهنّ. فواحدة منهنّ تعاني من ضيق تنفس ابنها البالغ من العمر 5 أشهر، وأخرى من "الشطف المستمر" للشرفة بسبب الغبار. ولأننا وصلنا إلى المنطقة في ساعات الظهيرة، لم نتمكن من شمّ هذه الرائحة بأنفسنا، وبالتالي لم نفهم ردّة الفعل هذه. فإذا كانت المسألة مسألة رائحة كريهة فقط... ليست شكا المنطقة الوحيدة في لبنان التي تعاني من هذه الروائح... ولكن، رداّ على سؤال أتى في هذا السياق، توجهت إحدى النساء إلى حبل غسيل قريب وقالت: "نسيت الغسيل بالأمس هنا... يمكنك الآن فهم كل شيء". فحملت بالقرب منّا (على بعد نصف متر تقريباً)، بنطالاً لإبنتها، جامد كالحجر، وتنبعث منه رائحة شبيهة برائحة الكبريت. فما هي إلاّ ثوان حتى اختنق الجميع، وقالت: "هذه هي الرائحة التي بدأ أنفنا يعتاد عليها".

كشف ميداني يتهم "هولسيم" والشركة تنفي!

ولأن المسألة لم تعد تطاق، توجه الأهالي إلى البلدية، ولم يسمعوا إلا الوعود وفق ما أكدوا لـ"النشرة". وفي هذا الإطار، أوضح إيلي عازار أنه أجبر نائب رئيس البلدية على السهر ليلاً في منزله حتى الثانية فجراً، فلم يتمكن من التنفس ورأى كيف تحوّلت سيارته إلى بيضاء اللون بسبب الغبار، وأوضح أن نائب الرئيس قال له: في الواقع، إن هذا الأمر لا يطاق. ولكنه جزم أن "الشركات أكثر قوّة من البلدية ومن الدولة، فهي شبه دولة و"ما حدا بيسترجي يزعّلا".

أصابع الإتهام تتجه نحو الشركات المحيطة، الأمر الذي دفع هيئة حماية البيئة في شكا إلى الطلب من وزارة البيئة إجراء كشف ميداني لمعرفة أسباب انبعاث الروائح الكريهة. فكشف تقرير الوزارة أنه "لم يتبين وجود أي رائحة منبعثة من العمليات المجراة ضمن معمل Air Liquide، كذلك، فإن مجرى العصفور المحاذي لهذا المعمل جاف ولا وجود لأي مصبات فيه. أما لدى مرور الفريق المكلف من الوزارة في مكان تفريغ الأحجار الكلسية ليصار إلى طحنها في شركة الإسمنت الأبيض التابعة لشركة "هولسيم"، وذلك في تاريخ 11 آب 2013، تبين انبعاث "روائح كريهة قوية".

واقترح فريق الكشف الميداني "إجراء فحص مخبري للعينة التي تم أخذها من الأحجار الموجودة في مكان التفريغ ليصار على أثرها إجراء المقتضى".

هذا الإتهام الذي توجه بكتاب إلى وزير البيئة، نفاه مدير تطوير الأعمال في شركة هولسيم-لبنان جميل أبو هارون، الذي شدد على أن "الروائح الكريهة المنبعثة في المنطقة ليست من مصانع هولسيم، وهي ليست في المنطقة المجاورة لمصنع الإسمنت الأبيض"، موضحاً "أنه لم يطرأ أي تغيير على شروط عملية الإنتاج".

وعبّر هارون عن فتح أبواب الشركة دائماً لأي تحقيق بنّاء ومحترف في هذا المجال، مشيراً إلى أن "وفداً من وزارة البيئة أخذ العينات للتحليل وفريقاً من وزارة الصناعة أيضاً قام بزيارة للتدقيق في هذا الموضوع".

وفي هذا السياق أكد إيلي عازار أن وفداً من الاهالي حاول التواصل مع سعد فدعوس، مدير شركة الترابة اللبنانية التابعة لـ"هولسيم"، فقال لهم: "شبعت حكي، ما بقا بدي رد على حدا... روحوا شوفو من وين عم تطلع الريحة".

أما رئيس هيئة حماية البيئة ​بيار أبي شاهين​، فرأى أن الشركة هي المسؤولة عن هذه الروائح، متهماً إياها بأنها تقوم بـ"تدجين فكري للناس بادعائها دائماً العفة البيئية"، لكن "الأمر انتهى، وعرف من الملوث".

"الشركة ما خصّا... هيدا أبو فادي"

لم تعد الناس تعلم إلى أي جهة تذهب لتشكو أمرها، فقد توجه وفد من سكان الحي أيضاً إلى البلدية وسمع الجواب التالي: "وجدنا مصدر الرائحة الكريهة... إنه مطعم أبو فادي للسمك".

وفي هذا السياق، رأى الأهالي في هذا الجواب "ضحكاً على عقول الناس". فقالت لنا نتالي مكاري: "الآن يلومون "أبو فادي"، يا عيب الشوم، هذه الرائحة لا يمكنها أن تصدر عن مطعم سمك". أما إيلي عازار فأوضح "أنهم يحتاجون إلى ضحية، فخلقوا عذراً، وأصبح بعض أعضاء البلدية كمحامي دفاع عن شركات الترابة".

توجهنا إلى مطعم السمك هذا، وتحدثنا إلى صاحبه فؤاد السيد الذي أتى من طرابلس بحثاً عن باب لرزقه، فشرح أنه، وبسبب انهماكه بمسألة انفجاري طرابلس في آب الماضي، نسي ولأول مرة منذ افتتاح المطعم (أي منذ سنة و8 أشهر) إفراغ الجورة الصحية، فطافت بما فيها ليلا، "ولكي لا تبقى على الأرض، أرسلنا محتواها إلى "الجنينة" خلف المطعم. وبعد 10 دقائق "طبّوا عليّي" من البلدية، تحديداً عضو البلدية ميشال العين برفقة شخص آخر، وقالوا لي: "أنت خارب الدنيا... والجورة هي التي تسبب الرائحة الكريهة". ولكنهم يعرفون أنه، كل 12 يوماً، تأتي آلية خاصة من البلدية لسحب محتواها، فكيف لهم أن يتهموني بذلك؟ والأسوأ أن هذا الحديث يتناوله الجميع اليوم في البلدة".

وتابع: تحدثت إلى رئيس البلدية، فقال لي "ما بقا تعيدا"... وانتهى الأمر، وقلت له أنها المرّة الأولى. أما في البلدة، فباتوا يقولون: "الشركة ما خصّا، هيدا أبو فادي". فليأتوا بخبراء وأنا مستعد لدفع كافة التكاليف... وعلى أي حال، هم يريدونني أن أغادر البلدة وسأغادرها إلى البترون "حتى إنسى شي إسمو شكا".

ورداً على اتصال هاتفي أجريناه بميشال العين، الذي كان أبناء الحي قد أكدوا لنا أنه الأكثر ترويجاً لـ"خبرية أبو فادي"، نفى أن يكون قد تم تحديد سبب الرائحة حتى الساعة، واكتفى بالرد عن أسئلتنا بجواب واحد: "ما منعرف شي...".

بدوره انتقد أبي شاهين دفاع البلدية عن الشركات، معتبراً أنها "باتت مشلولة ولا تهتم لهموم الناس". وأوضح أن رئيس البلدية يقول لمن يذهب إليه سائلاً عن هذا الموضوع: "لا دخل للهولسيم بالموضوع... لماذا تتجنّون عليها؟" وقال: "الناس تشتكي من البلدية في هذا الخصوص ولكنها تخاف من التحرك ضدها لأنها يمكنها أن توقف كل مصالحها". وهذا ما أكده أيضاً عازار، لكنه أشار إلى "أننا، وإن يخشى بعضنا على مصالحه، فلم نعد نحتمل". ولكن حالة الخوف على المصالح لم تعد عامّة في شكا، فإيدي عازار، الذي يعرّف عن ذاته كناطق سابق باسم رئيس البلدية، أكد لنا أنه "لم يعد يهتم لشيء لأن المسألة تخطت كل الحدود"...

مؤامرة كبيرة!

اللوم الكبير يقع، بالنسبة لأبي شاهين، على عاتق نواب المنطقة الغائبين عن همومها، وعلى عاتق وزرائها أيضاً. أما المسؤولية، فتتحملها وزارة البيئة، وفق أبي شاهين أيضاً، الذي أشار إلى أن "الوزارة كانت قد أرسلت عدّة كتابات لشركة "هولسيم" في ما يتعلق بالتفجيرات التي تقوم بها، ولم يتم تطبيق بنودها، ولم يتم إتخاذ أي إجراءات بحقها... فما نفع الرسائل إذا لم تطبق؟"

واعتبر أن ما يجري اليوم هو "مؤامرة كبيرة على شكا أبطالها الشركات بالتعاون مع نوابنا"، مناشداً رئيس الجمهورية أن يتدخل كما تدخل بقضية الأرز لكي لا تتحول شكا إلى "ناعمة" أخرى".

القضية ليست قضية الرائحة الكريهة التي يجدر بالمسؤولين في لبنان إعلان الجانب المسؤول عنها جهاراً ومطالبته باتخاذ الإجراءات لمنع تصاعدها فوراً.

لكن هذه الرائحة ليست سوى مؤشر إلى مشكلة أكثر عمقاً، وهي مشكلة الدوّامة الفارغة التي يدور فيها أهل شكّا منذ زمن: الأهالي لا يريدون معاداة البلدية حفاظاً على مصالحهم الخاصة من جهة وعلى العلاقات العائلية التي تحكم أوضاع البلديات من جهة أخرى، وفي الوقت عينه، البلدية ضعيفة أمام قدرة الشركات الكبيرة ولا تقوم بأي مجهود للضغط عليها لمصلحة أبنائها. أما الشركات فتبسط هيمنتها على شكا والجوار، فتفعل ما يحلو لها، في ظل بلدية لا تعرقل أمورها ودولة لا تأبه بما يجري وكل الإجراءات التي تتخذها بحقها تبقى حبراً على ورق، أو في أفضل الأحوال خجولة جداً... هكذا يتآمر الجميع على المواطن، ويشارك هو بذاته في المؤامرة المحاكة ضدّه...