معتقلون، مفقودون، مخفيون، منسيون، كثرت المصطلحات والوجع واحد: الظلم! هم لبنانيون غُيّبوا عن أرضهم وأهلهم قسرا، تارة بالتواطؤ مع الأحزاب اللبنانية وطورا بغض الأخيرة النظر عن ارتكابات المخابرات السورية أيّام احتلال الجيش السوري للبنان. إنهم اللبنانيون في السجون السورية الذين لا تتذكرهم السلطات الرسمية إلا نادرا، وخصوصاً في إطار المزايدات السياسية. آخر فصول هذه القضية، أو المحاولات لإعادة إنعاشها تجلّت بالحديث عن هيئة وطنية تتولى متابعة قضايا المفقودين اللبنانيين خلال الحرب، إن كانوا فُقدوا في لبنان أو خارجه.

ينص مشروع مرسوم إنشاء "الهيئة الوطنية المستقلة للمخفيين قسرا" على حق افراد عائلة المخفي في معرفة مصيره، على أن تتولى الهيئة تلقي البلاغات عن حالات الاخفاء وكافة المعلومات المرتبطة بها واجراء عمليات الاستقصاء التي تراها مناسبة، بالإضافة إلى تدقيق وحفظ المعلومات عن المخفي قسرا لادراجها في السجلات المركزية للمخفيين وتحديد المعايير الواجب اتباعها لادارتها وحمايتها، كما يناط بها انشاء بنك معلومات كامل عن المخفيين قسرا لادراجه في السجلات المركزية للمخفيين وتحديد المعايير الواجب اتباعها لادارتها وحمايتها. والأهم من كل ذلك، فإن هذه الهيئة تتولى تبليغ السلطات المختصة وتقديم طلبات البحث والتعقب لديها.

وبحسب إعلان صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18 كانون الأول 1992، فإن الإختفاء القسري هو "القبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغما عنهم أو حرمانهم من حريتهم على أي نحو آخر، على أيدي موظفين من مختلف فروع الحكومة أو مستوياتها أو على أيدي مجموعات منظمة أو أفراد عاديين يعملون باسم الحكومة أو بدعم منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو برضاها أو بقبولها، ثم رفض الكشف عن مصير الأشخاص المعنيين أو عن أماكن وجودهم أو رفض الاعتراف بحرمانهم من حريتهم، مما يجرد هؤلاء الأشخاص من حماية القانون، وينص على أنه لا يجوز لأي دولة أن تمارس أعمال الاختفاء القسري أو أن تسمح بها أو تتغاضى عنها".

وفي هذا التعريف، تجاوز واضح للدولتين اللبنانية والسورية للقانون الدولي فيما خص هذا الموضوع، مع العلم أن الدولتين لم تنضما بعد إلى هذه الإتفاقية.

هل تقر الهيئة بموجب مرسوم أم قانون؟

وبالعودة إلى الهيئة الوطنية، فإن رئيس جمعية "سوليد" ​غازي عاد​ يرى في حديث إلى "النشرة" أن "إنشاء الهيئة الوطنية المستقلة للمخفيين قسرا إذا تم فهو سيعد معجزة وإنجازاً كبيرين"، موضحا أن "هذه الهيئة تساعدنا على تحديد هوية المفقودين والعمل على تصنيف الحالات"، مشددا على أنه "يجب مواجهة السوري بملفات وليس بالكلام، لأننا لا نريد مزايدات بل نريد العمل على أرض الواقع".

ورغم أهمية هذه الهيئة ودورها في معالجة هذه القضية، فإن المجتمع المدني إنقسم على نفسه، بين من يطالب بإقرارها في قانون يصدر عن مجلس النواب وبين من يؤيد إقرارها عبر مرسوم يصدر عن مجلس الوزراء. وفي هذا الإطار، يلفت عاد إلى "عرقلة من المجتمع المدني ومن السياسيين في آن معا لأن هناك من يطالب أن تقر هذه الهيئة ضمن قانون يصدر عن مجلس النواب وليس مرسوم يصدر عن الحكومة، وهذا أمر نعترض عليه لأن القانون قد يبقى 10 سنوات في أدراج المجلس حتى إقراره، في حين نريد إنشاء هذه الهيئة في أسرع وقت ممكن".

أما رئيس لجنة المعتقلين السياسيين اللبنانيين في السجون السورية ​علي أبو دهن​، فيبدي تحفظا على مهام الهيئة، مشيرا في حديث إلى "النشرة" إلى أنه "لا يهمنا صدورها عبر مرسوم أم مشروع قانون ولكن ما يهمنا هو ألا تتضمن المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية وأن يقتصر عملها فقط على المخفيين قسرا"، مؤكدا أن "هذه الهيئة لا تعنينا كمعتقلين، وقد قمنا بتعديلات وأرسلناها إلى وزير العدل ​شكيب قرطباوي​ ونحن نريد ملفا مفصولا عن ملف المخفيين قسرا وسنتعاون مع الجميع".

وفيما يتحفظ البعض على كيفية صدور هذا القرار، يؤكد مقرر لجنة حقوق الإنسان النائب ​غسان مخيبر​ أن "المقاربة بين المرسوم والقانون هي مقاربة تكامل وليس تنافر"، لافتا إلى أن "إقرار الهيئة في الحكومة لا يعفي مجلس النواب من صياغة قانون يكون أكثر شمولية يلحظ مجموعة تدابير يفترض أن تصدر بقوانين لاستكمال البنية التشريعية الضرورية لمتابعة هذا الملف الشائك"، مشددا على أنه "على مجلس النواب الإسراع في مناقشة وإقرار قانون يكون أشمل ويتضمن أحكاما لتجريم الإخفاء القسري وتدابير تشريعية تسرع في إقرار القانون الخاص ببنك المعلومات".

وعن عمل الهيئة واختصاصها، يشدد مخيبر على أنه "عليها أن تعمل على كافة الجبهات وعلى كافة ملفات الإختفاء القسري"، موضحا أن "هناك حالات عديدة وعلى الهيئة أن تنظر فيها جميعها والأفضلية بالسرعة يجب أن تكون للمخفيين في السجون السورية لأن هناك من هم على قيد الحياة، أما في لبنان فيجب أن نختم جراح الحرب"، مؤكدا أن "الأولوية ستكون للمفقودين والمخفيين في سوريا"، قائلا: "الهيئة متخصصة وستضع كل وقتها وجهدها في هذه القضية".

وفيما ينوه مخيبر وعاد بـ"حماسة" وزير العدل شكيب قرطباوي لهذا الملف والجدية التي يبديها في تعاطيه معه، يشدد الوزير قرطباوي على "ضرورة تنقية الذاكرة اللبنانية والوصول إلى إقرار الهيئة الوطنية المستقلة للمخفيين قسرا التي تكسر حاجز الصمت وتناسي الموضوع وتذكره في المناسبات الحزينة فقط".

ويوضح قرطباوي لـ"النشرة" أنه "كان قد قدم مشروع مرسوم إلى مجلس الوزراء وقد تمت مناقشته وتأليف لجنة وزارية لمتابعة الموضوع تألفت من الوزراء علي قانصو ووائل أبو فاعور وسليم جريصاتي برئاسته شخصيا وقد اجتمعت بلجان الأهل وتم تعديل المشروع الأول ولكن مع الأسف استقالت الحكومة وتوقف المشروع"، مؤكدا أنه "يؤيد مطالب لجان الأهل بإقرار الهيئة في مجلس النواب ولكن إصدارها ضمن مرسوم صادر عن مجلس الوزراء يعيد تحريك الملف".

لتنقية الذاكرة وختم ملف المفقودين..

وعن مهامها، يلفت قرطباوي إلى أن "الهيئة الوطنية تؤكد حق الأهل بالمعرفة والإطلاع على مصير أبنائهم وإنهاء القضية بشكل إنساني"، مشيرا إلى أنها "تتعاطى مع جميع قضايا المفقودين خلال الحرب اللبنانية وجزء من مهامها متابعة قضية اللبنانيين في السجون السورية"، آملا أن "تقوم الحكومة المقبلة بإقرارها وأن يعمل مجلس النواب في المقابل على تشريعها".

وإذ يؤكد "عدم موافقة جميع الأفرقاء على المرسوم"، يشدد قرطباوي على أن "ما نقصده من خلال هذه الهيئة هو تنقية الذاكرة وفتح هذا الجرح لتنظيفه وإقفاله نهائيا".

بدوره، يشدد مخيبر على "أننا في معرض العمل على حالات قائمة ولدينا ثقة أنه لا يزال يوجد لبنانيون أحياء في السجون السورية وأكبر دليل هو خروج يعقوب شمعون وعلى الدولة الإسراع باستعادتهم". أما عاد فيشير إلى "وجود 600 حالة مسجلة لدى "سوليد" والهيئة ستساعد على كشف مصيرهم والكشف عن إمكان وجود مفقودين آخرين في سوريا غير مسجلين عندنا أو في سجلات وزارة العدل".

جرح نازف في ذاكرة الوطن..

هو جرح نازف في ذاكرة الوطن. جرح يحتاج إلى من يجرؤ على فتحه والغوص إلى أعماقه ومعرفة مكامن الخلل ومعالجتها ومداواته وختمه لأن التّنكّر للموضوع لم يعد مقبولا والتعامي عن الحقائق لم يعد جائزا. موضوع اللبنانيين في السجون السورية يتطلب وقفة ضمير، صحوة من الدولة اللبنانية الغائبة عن السمع عن أبسط حقوق مواطنيها المقيمين على أرضها، فكيف عن أولئك المغيبين قسرا وبغطاء منها؟ المأساة لم تعد تحتمل المزيد من الوعود الكاذبة، فهل من سيجرؤ يوما من وزرائنا ونوابنا ورؤسائنا الكرام على الوقوف بوجه سوريا والمطالبة بمعرفة مصير أكثر من 600 لبناني سُجن ظلما وعُذّب افتراءً واتُهم زورًا من قبلها؟ الأهالي لن ينسوا والتاريخ لن يرحم، أما الذاكرة فستبقى نازفة..

هذا الموضوع هو الجزء الأخير من ملف خاص فتحته "النشرة" تحت عنوان "مفقودون ومخطوفون: جرح لبنان النازف في سوريا منذ سنوات طويلة".

الأجزاء السابقة:

الجزء الأول -بين الإخفاء القسري والإعتقال: هل تضيع قضية اللبنانيين المفقودين في سوريا؟

الجزء الثاني -المعارضة السورية تعد بإطلاق سراح اللبنانيين في السجون السورية والأهالي يتحفظون (2)

الجزء الثالث -أحمد حسن بشاشة: لبنانيّ مخفيّ في سوريا بين أمل العودة ومرارة الواقع (3)

الجزء الرابع -بين الحياة والموت وبين لبنان وسوريا: أحمد علي أحمد مخفي منذ الـ1982 (4)

الجزء الخامس -حسن أحمد شعيب قاتَل سوريا عام 1976 ويسكن سجونها منذ 37 عاما! (5)

الجزء السادس -داوود يوسف لحود.. مفقود التكاذب ومصالح الأحزاب مع سوريا (6)

الجزء السابع-عبدالله اسماعيل حمودة غيّبه أحد الأحزاب اللبنانية وأخفته السلطات السورية (7)

الجزء الثامن-عماد ابراهيم عبدالله: معتقل سابق في اسرائيل ومتهم بالعمالة لها من قبل سوريا؟! (8)

الجزء التاسع -قزحيا فريد شهوان: "مجرم كتائبي" مخفي في السجون السورية (9)

الجزء العاشر -30 آب 1983 يوم أسود خطّه ميلاد حبيب يوسف على جدران السجون السورية (10)