بالنسبة للكثيرين، تقتصر مهام جهاز ​الأمن العام​ ال​لبنان​ي على أمور تقنية آنية تنطلق من مراقبة الأجانب على الأراضي اللبنانية وصولاً إلى إصدار جوازات السفر ومنح بطاقات الإقامة المؤقتة والدائمة.

ربّما، هذه هي "الصورة" التي حفظها اللبنانيون عن الأمن العام طيلة العهود السابقة، أو التي ربّما أراد البعض أن يعطيها لجهازٍ هو في الواقع أحد الأجهزة الأمنية الأساسية في البلد، والذي يُفترض أن يكون "مكمّلاً" لسائر الأجهزة الأمنية التي لا تكتمل مهامُها دون التعاون والتنسيق فيما بينها.

لكنّ هذه "الصورة"، التي ما كان يمكن لها أن تتغيّر سواء بنصوصٍ قانونية أو بمواعظ ووعودٍ اعتاد عليها اللبنانيون، اختلفت جذريًا اليوم، بعد "إنجازاتٍ عمليّة" حققها هذا الجهاز الذي كاد يصبح طيّ النسيان، جهازٌ أثبت نفسه اليوم كـ"لاعبٍ من الطراز الأول" على الساحة، واعدًا بالمزيد في المرحلة المقبلة.

ورش عمل وإعادة تأهيل وأكثر...

مع وصول اللواء ​عباس ابراهيم​ إلى المديرية العامة للأمن العام، أراد أن يصنع "فارقًا"، وهو الآتي من مؤسسة الجيش اللبناني، التي تعلّم منها أن يكون فوق الطوائف. وإذا كان اللبنانيون قد بدأوا بتلمّس هذا "الفارق" بُعيد "الإنتصار" الذي تحقق بتحرير المخطوفين اللبنانيين في أعزاز بعد 530 يومًا من الأسر والعذاب، والذي سطع معه نجم المؤسسة ومديرها الذي بات اسمُهُ على كلّ شفة ولسان، فإنّ الواقع بأنّ العمل عليه بدأ منذ فترة طويلة، وتحديدًا منذ كانت السهام والحملات تُصوَّب بشدّة نحوه.

وفي هذا السياق، تكشف مصادر مطلعة أنّ كلّ الإنجازات التي حقّقها الأمن العام خلال الفترة الماضية، سواء على صعيد قضية مخطوفي أعزاز أو قبلها متابعته لملف كمين تلكلخ الشهير وكشف الخلايا الإرهابيّة في أكثر من منطقة في لبنان، لم تأتِ من عبث، بل إنّها حصيلة جهودٍ مضنية بدأت منذ اليوم الأول، حيث تتحدّث المصادر عن تطويرٍ في الشقين الإداري والأمني المخابراتي داخل جهاز الأمن العام خلال السنتَين الماضيَتَين.

وفيما تؤكد وجود عملية تحديث قائمة للجهاز تترافق مع ورش عمل وإعادة تأهيل على أكثر من صعيد، تكشف أنّ أولى ثمار هذه العملية ستتجلى بوصول عديد الجهاز الى 6000 عنصر قبل نهاية السنة الحالية وذلك مع تخريج دفعة جديدة من 500 عنصر خلال شهرَين على أبعد تقدير بعد تخرج دفعتَين مماثلتَين خلال السنتين الماضيتين.

تعاونٌ مُثمر بين الأمن العام والإتحاد الأوروبي

وفي سياقٍ متّصل، تلفت المصادر المتابعة إلى أنّ الإتحاد الأوروبي يساعد الأمن العام بمعدّات حديثة تواكب العصر خصوصًا بالموضوع التكنولوجي والأجهزة الإلكترونية الحديثة وذلك للحدّ من الفكر الإجرامي وملاحقة المتورطين بما يُسمّى بالجرائم المنظّمة. وإذ تسمّي ألمانيا على وجه الخصوص في سياق حديثها عن هذه النقطة، تشير إلى أنّ هناك أشياء لم تكن موجودة في السابق تمّ استحداثها لمواجهة الجريمة والإرهاب، مؤكدة أنّ هذا الموضوع ساعد كثيرًا في كشف خلايا إرهابية في عدّة مناطق من لبنان.

وتشير المصادر إلى أنّ جهاز الأمن العام، شأنه شأن أيّ جهازٍ أمني في أيّ مكانٍ في العالم، ملزَمٌ بملاحقة التطور ومواكبة العصر، إلا أنّ إمكانياته محدودة أو بالأحرى متواضعة، في ظلّ الوضع الاقتصادي الصعب الذي يشهده لبنان، ولذلك فقد نشأ ما يمكن تسميته بالتعاون بين الأمن العام والإتحاد الأوروبي على صعيد تبادل المعلومات والتنسيق والتعاون، وكذلك على صعيد التجهيزات والتدريبات. وتتحدّث المصادر في السياق نفسه عن تعاونٍ مع العديد من المسؤولين في الدول العربية كذلك الأمر.

إستغلالٌ سياسي مرفوض

هكذا إذًا، لا يمكن قراءة كلّ الإنجازات التي حقّقها الأمن العام خلال المرحلة الماضية بمعزلٍ عن هذه "الورشة الداخلية"، "ورشة" يقول البعض أنها "أثمرت" مؤخرًا، خصوصًا بعد ارتفاع أسهم الجهاز ومديره العام اللواء عباس ابراهيم مع "الخاتمة السعيدة" التي انتهى إليها ملف مخطوفي أعزاز الذي بقيت الدولة عاجزة عن حله لسنة ونصف ووُصِف بالمعقّد مرارًا وتكرارًا، إلا أنها زادت أيضًا "التحدّيات" التي يُفترض أن يتصدّى لها الجهاز الذي ثبّت أقدامه على الأرض.

وإذا كان اللواء ابراهيم وضع منذ اليوم الأول نُصبَ أعينه هدف "إخراج الأمن العام إلى رحاب الوطن وجعله على قياس لبنان وليس على مقياس طائفة واحدة"، كما يحرص نفسه دائمًا على القول، فإنّ ذلك لم يمنع صدور أصواتٍ منتقدة لأدائه في الآونة الأخيرة، بل وضعه في خانة معيّنة بدليل رفع صُوَره في مناطق محدّدة ومعروفة الإنتماء. لكنّ مصادر مواكبة ترفض هذا "الإستغلال السياسي" كما تصفه، وتذكّر في هذا السياق بأنّ اللواء عباس ابراهيم تحرّك أيضًا بموضوع تلكلخ وتعاطى معه تمامًا كما تعامل مع ملف مخطوفي أعزاز بغضّ النظر عن أيّ تفاصيل تتعلق بالانتماءات والميول السياسية لهذا الفريق أو ذاك.

المغيّبون قسرًا قيد المتابعة

وإذ تشدّد المصادر على عدم جواز تجيير كلّ فريقٍ للأمور لصالحه، تلفت، ردًا على ما أثير في هذا الإطار، بأنّ اللواء ابراهيم اجتمع مع من يجب أن يجتمع بهم في الحالتَين وهو مستعدّ للإجتماع مع أيّ كان من أجل أيّ لبناني يواجه أيّ مشكلة، وتقول: "لا يجوز المتاجرة بهذا الموضوع، ففي النهاية، الموضوع إنساني بامتياز، سواء كان هذا الموضوع موضوع تلكلخ أو أعزاز".

وردًا على سؤال، ترفض هذه المصادر المقارنة بين موضوع مخطوفي أعزاز والمفقودين والمغيّبين قسرًا في السجون السورية، مؤكدة أنّ الموضوعَين مختلفان تمامًا، معتبرة أنّ محاولة البعض مقاربتهما بذات الذهنيّة تصبّ كذلك الأمر في خانة الإستغلال السياسي. وإذ تؤكد أنه ستكون هناك متابعة ما في هذا الإطار، مشيرة إلى أنّ هذا الموضوع لن يحصل بطريقة علنية، تؤكد وجود تواصل بين الأمن العام ورئيس جمعية "سوليد" على هذا الخط، لافتة إلى وجود حالات إنسانية بموضوع المغيّبين قسرًا لا يجوز السكوت عنها أو وضعها في الأدراج.

متى "تكتمل" الفرحة؟

ولا يمكن للحديث عن الدور الذي يلعبه الأمن العام في الآونة الأخيرة أن يكتمل دون التطرّق إلى قضية المطرانَين المخطوفَين يوحنا ابراهيم وبولس يازجي، واللذين رهن اللواء عباس ابراهيم اكتمال فرحته بتحرير مخطوفي أعزاز بتحريرهما كما صرّح في أكثر من مرّة، علمًا أنّه تحدّث عن وجود قناة سرّية على خط التفاوض لإطلاقهما.

وفي هذا السياق، تلفت أوساط متابعة لهذا الملف أنّ موضوع المطرانَين المخطوفَين حسّاسٌ جدًا نظرًا لما يحصل في منطقة الشرق الأوسط وما يُحكى عن استهدافٍ للمشرقية المسيحية وكذلك التهديد الذي يواجهه المسيحيون ككلّ والذي تجلّى في أكثر من منطقة سواء في فلسطين أو ما يعانيه مسيحيو العراق ومصر من اضطهاد والتهجير الممنهج الذي يتعرّضون له في سوريا، وتشير إلى أنّ اللواء ابراهيم اعتبر نفسه انطلاقًا من كلّ ذلك معنيًا بملف المطرانَين كما أنّ تمنياتٍ وصلت إليه من رجال دين في المنطقة للدخول على خطّ المفاوضات نظرًا لخبرته وحنكته على هذا الصعيد.

وتؤكد الأوساط وجود متابعة مع الجانبين التركي والقطري وكذلك مع الأوروبيين الذين دخلوا على الخط للوصول لحلّ لهذه القضية، علمًا أنه زار قطر مؤخرًا والتقى أميرها الشيخ تميم بن حمد الذي أعطى توجيهاته للأجهزة المعنيّة للمساعدة.

وفيما تؤكد هذه الأوساط أنّ هذا الملف سيُتابَع بسرية حتى النهاية، مع وجود معلومات مؤكّدة تقارب المئة بالمئة بأنّ المطرانَين على قيد الحياة، وتنفي وجود رابط بين خطف اللبنانيين التسعة والمطرانين يازجي وابراهيم، باعتبار أنّ أيّ جهة لم تعلن مسؤوليتها عن خطفهما بخلاف ما حصل مع مخطوفي أعزاز الذين تبنّت جهة معيّنة خطفهم وظهر خاطفهم عبر الإعلام، تخلص إلى أنّ كلّ ما يُثار عن هذه القضية هو أقرب للتحليل مما هو نقل الواقع والحقيقة.

دورٌ جديد لا مجال للتراجع عنه..

لم يعد الأمن العام مجرّد جهازٍ يوزّع جوازات السفر ويراقب الأجانب المقيمين في الداخل. حوّل نفسه، عن سابق تصوّر وتصميم، إلى لاعبٍ أساسي على الساحة، بل "منافسًا حقيقيًا" لسائر الأجهزة الأمنية في "الحرب الإيجابية" الدائرة بينها.

وبغضّ النظر عن "اعتراضات" البعض على "الدور الجديد"، فإنّ المؤكّد أنّ "تحديات" بالجملة ستكون بانتظاره في المرحلة المقبلة، والمؤكد أكثر أنّ التراجع عن هذا الدور لم يعد في سلّم "خياراته" من الآن فصاعدًا...