لم تفلح زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري للسعودية، أخيراً، في تخفيف حدّة لهجة المملكة ومواقفها المعارضة للحوار الإيراني ـــ الأميركي حول الملفين الخلافيين، التخصيب النووي الإيراني والوضع في سوريا. بقيت واشنطن، حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت الزيارة، تراهن على تليين مواقف حليفيها في المنطقة، الرياض وتل أبيب، لوضع خريطة طريق جديدة في الشرق الأوسط، والحصول بالدبلوماسية والمفاوضات على نتائج «مرضية» ـــ وإن لم تكن كاملة ـــ بكلفة أقل من أي تدخل عسكري أميركي.

وإذا كانت واشنطن قد راهنت على شراء الوقت في تعاملها مع ملفّي سوريا وإيران، إلا أن السعودية ذهبت الى الاتجاه الآخر، وكثّفت ضغطها الدبلوماسي والسياسي و«الأمني» كي تضع واشنطن أمام تحديات جديدة. ما رشح من لقاءات كيري في السعودية أن الخلاصة الأولى كانت الاقتناع الأميركي بأن السعودية متشددة الى الحد الذي يتعذر معه عقد مؤتمر «جنيف 2»، ما اضطر واشنطن الى إحالة ملف التحضير لمؤتمر حواري ما بدلاً من جنيف الى روسيا، وعقد جولات حوارية مع النظام والمعارضة السورية على أرضها.

جاء الاعتذار السعودي الرسمي عن إشغال مقعد في مجلس الأمن لينهي فترة ضبابية، كان الاعتقاد خلالها أن المفاوضات قد تثني الرياض عن موقفها، فجرى الحديث عن احتمال إشغال الكويت للمقعد أو الأردن. إلا أن الرياض تمسّكت بموقفها القائل بأن ما قبل زيارة كيري هو نفسه ما بعدها. حتى لو عدّ موقفها تجاه الملف النووي الإيراني (وسوريا) متقاطعاً مع الموقف الإسرائيلي، وكلاهما يلوّحان بحقهما النووي في حال تركت المفاوضات الدولية لإيران، ما يمكنها ولو على المدى الطويل من تحقيق هدفها النووي.

سعت السعودية قبل أشهر مع روسيا في محاولة تأطير جهودهما، وتسعى اليوم الى إثبات أن قوتها الإقليمية لم تنحسر بمجرد أن واشنطن غيّرت منهجية عملها في المنطقة، ومدّت شبكات حوارية مع إيران بعيداً عن المفاوضات المعلنة بين الغرب وطهران حول الملف النووي. وبين السعودية وواشنطن وإيران ثلاثة ملفات متشابكة: العراق ولبنان وسوريا.

والمشكلة الأساسية مع احتمال الحصول على تسوية نووية إيرانية مع واشنطن، هي في معرفة الثمن الذي يجب على طهران أن تدفعه في بقع التوتر هذه.

تقف إيران في العراق موقفاً مغايراً لموقعها في سوريا ولبنان. طهران هناك ليست في موقف دفاعي مكلف كما حالها في سوريا، بل في صلب القرار والتركيبة العراقية. لكنها، رغم ذلك، مضطرة الى التعامل مع العراق على أنه واحد من الملفات الموضوعة على جدول أعمالها مع واشنطن. اليوم يشهد العراق متغيرات تفرض نفسها على أي مشهد سياسي، بعد زيارة رئيس الوزراء نوري المالكي لواشنطن (رغم الانتقادات التي طاولتها) وبعد الرسائل الإيجابية مع تركيا إثر زيارة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو للعراق ودعوة المالكي الى علاقات ثابتة ومستقرة بين البلدين، والانفتاح على الجناح السني العراقي الداخلي.

يعود العراق اليوم الى المشهد الإقليمي بقوة، حيث لإيران التأثير الأقوى، وحيث هي مضطرة من أجل تقديم رزمة متكاملة في مفاوضاتها مع واشنطن الى تدوير زوايا التقاطعات الداخلية. لكن السباق بين هذه المحاولات، وبين التحذيرات من أن ينعكس عليه تدهور العلاقات على خط طهران ــ الرياض ــ واشنطن، واحتمالات عودته بقعة توتر دامية، كما تشير أحداث الأيام الأخيرة.

تضطر طهران الى التعامل مع الوضع العراقي بغير استراتيجيتها في لبنان وسوريا. ثمة شبكة مصالح متشابكة وحدود متداخلة وقضية كردية لها امتداداتها على دول الجوار. لكن أيضاً لدول الجوار السنية حساباتها فيه. لذا ستتجه بوصلة الاهتمام مجدداً الى حيث الساحة المتفجرة من دون توقف شهراً بعد آخر، وحيث يحاول الطرفان الإقليميان الأبرزان أن يضاعفا من رصيدهما بين محورين متضادين.

وضع لبنان يختلف جذرياً. لإيران دور حيوي عبر حزب الله، وهو في صلب التركيبة اللبنانية الداخلية أسوة بالقوى السياسية والطائفية الأخرى. لكن إيران أيضاً في موقف دفاعي في لبنان بعدما أصبح الحزب في نظر بعض الداخل اللبناني والدول الإقليمية عنصر تعطيل سياسي وأمني. في الأشهر الأخيرة خفف الحزب شروطه في عملية احتواء الوضع الداخلي عبر الحكومة والقبول تركيبة 9-9-6. وبدا في لحظات تقاطع إقليمية تزامنت مع احتمال مجيء الرئيس الإيراني حسن روحاني الى مكة لأداء فريضة الحج، أن تطبيع الوضع اللبناني جزء من معالجة المشكلة القائمة بين الرياض وطهران، وأن حلحلة الوضع الداخلي اللبناني سائرة من دون عثرات. لكن روحاني ذهب الى نيويورك، حيث اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وجرى اتصال تاريخي بينه وبين باراك أوباما، ولم يأت الى مكة. وما إن بدأت ملامح الصفقة الأميركية ـــ الإيرانية الروسية تتبلور، حتى عاد التوتر السياسي الى لبنان، والتوتر الأمني الى طرابلس كواحدة من بؤر التفجير المستمرة، وتعطل مشروع الحكومة مجدداً.

من يرى في الصفقة تخلّياً أميركياً عن حلفائها في لبنان كما هي حالها مع السعودية، يميل الى الاعتبار أن لبنان سيكون مجدداً في خضم التجاذب الإيراني ـــ السعودي، يترجم في ارتفاع منسوب التوتر الأمني والسياسي الى الحد الذي ينذر بالفراغ الرئاسي.

الاتجاه الآخر يعتبر أن ثمة صفقة متكاملة تضطر فيها طهران الى دفع ثمن في لبنان، عبر حزب الله، سواء من خلال تورطه في سوريا أو عبر دوره في التركيبة اللبنانية والحفاظ عليها في هذه المرحلة الحساسة التي تعيشها العلاقات الإيرانية من دول الجوار. ثمة اعتقاد أن طهران تفاوض اليوم من رصيدها وهي ستحمي أولوياتها داخل إيران، وتالياً فإنها في مرحلة المفاوضات مع واشنطن، ولأن ما يسري في سوريا والعراق لا يسري في لبنان المختلف بطبيعة نظامه ومجتمعه، قد تكون أقرب الى تفادي المجازفات المتعلقة بالتركيبة اللبنانية، ومن دون التخلي في الوقت ذاته عن سلاح الحزب وترك أمره الى مراحل مفاوضات من نوع آخر. لكن المشكلة لم تعد في ما تريده طهران فقط، بل في ما تريده السعودية أيضاً. وأي كباش بينهما على أرض لبنان ستكون ترجمته فراغاً رئاسياً بات الحديث عنه أمراً واقعاً في كلام المرجعيات اللبنانية.