بلغ الفلتان حدّه وطفح الكيل... فكل لبنان، من شماله إلى جنوبه، بات يطمر ذاته كل يوم شيئاً فشيئاً بنفاياته. والسبب؟ غياب أي خطة شاملة للعلاج. ففي كل المناطق، يقع الخيار، "صدفة" أو لأي سبب من الأسباب، على بلدة أو جبل أو وادٍ أو حيّ، وتبدأ عمليات الطمر والرمي العشوائي، فتلتهم ​النفايات​ أمتاراً فهكتارات عدّة، إلى أن يتحرك أحدهم رافضاً أن تتحول رئتاه إلى "كورنيش" للغازات السامة... أو، لَمَ لا، إلى مطمر على غرار ما نجده اليوم في الناعمة-عين درافيل.

فالنفايات باتت اليوم "ذهبًا خالصًا" يصل إلى أيدي بعض الذي "يتبرعون" بإنقاذ البلديات البعيدة عن بيروت وجبل لبنان من مشكلتها المزمنة، وهي مستعدة أن تدفع كل ما يلزم لكي تبعد "الدب عن كرمها" مهما كان الثمن. وليس ما يحصل في بلدة "عين إبل" الجنوبية اليوم إلا نموذجاً.

الإلتزام بعدم الإلتزام

بعد أن كانت البلدة تتخلص من نفاياتها حرقاً على سطح الأرض بطريقة كانت تزعج بها سكانها وسكان البلدات المجاورة، أتى أحد الأشخاص وتقدّم بحل عبر إنشاء معمل حديث للفرز والتسبيخ وفقاً للمعايير المعترف بها، بحسب ما يؤكد لـ"النشرة" رئيس البلدية فاروق بركات دياب. ولكن، سرعان ما بدأت التجاوزات، وتحول المعمل إلى مطمر ومكب، فبدأت البلدية بمتابعة الموضوع إلا أن المسؤول عن المشروع "كان دائماً يطالبها بمهل".

وفي هذا الإطار، يشرح بيار حصروتي المتابع للملف، أنه ولدى تأسيسها وأخذ موافقة البلدية على بدء الأعمال عام 2012، تعهدت شركة "عين إبل للنفايات" بأن المعمل الذي أنشأته في محلة العرمة التابعة عقاريا لـ"عين إبل"، سيستقبل نفايات ثلاث قرى مجاورة فقط، إلا أن المالكين "بدأوا باستقدام النفايات من أكثر من 12 بلدية وقاموا بطمر النفايات العضوية التي تستخدم في عملية التسبيخ، وبالتالي لم يلتزموا بما تعهدوا به إن من ناحية الكمية او من ناحية طريقة معالجة النفايات".

ويوضح حصروتي أنه، "وبعد أن رأى شباب البلدة ما يجري، تجمع عددٌ منهم وتقدموا في شباط 2013 بشكوى للبلدية، ومن ثم، اجتمعوا في المبنى البلدي بأصحاب الشركة وطالبوا بإعطائهم مهلة أقصاها الأول من آذار 2013 لتجهيز المعمل. إلا أن صاحب الشركة لم يلتزم بالإتفاق، الأمر الذي دفع بالبلدية إلى إتخاذ قرار بإقفال المصنع في 20 آذار الماضي".

وبحسب حصروتي، فإن الشركة لم تلتزم، والبلدية أيضاً، فلم يتم إقفال المعمل مما أدى إلى تفاقم الأمور سوءاً، وفي 24 نيسان 2013 منحت البلدية الشركة رخصة استصلاح أرض التي "استغلها صاحب المصنع للحفر وطمر النفايات بشكل عشوائي". ويتابع: "تقدم أبناء البلدة بعريضة مطالبين بإقفال المطمر الذي يشكل تهديداً مباشراً لصحة الأهالي والقرى المجاورة"، وفي 15 أيلول الماضي، قدموا هذه العريضة للبلدية التي قررت تشكيل لجنة واستعانت بخبراء بيئة، فقدموا لها مشاهداتهم التي صبت بمصلحة المعترضين".

من فاشل إلى أفشل...

الخبير البيئي زياد أبي شاكر، الذي أعد تقريراً عن وضع المعمل، يؤكد أنه، وخلال زيارته الميدانية للشركة، لاحظ أن "القيمين عليها ليس لديهم أدنى فكرة عن كيفية إدارة معمل نفايات وقد أتوا ببعض المعدّات بعد الضغط عليهم ولكنهم لا يعرفون كيفية تشغيلها".

ويقول: "مشكلة النفايات كبيرة جداً والبلديات تريد التخلص منها، فأتى أصحاب هذا المعمل وعرضوا على البلديات المجاورة طمر نفاياتها فيه، ومن ثم، أتى بجرافة وبدأ بالطمر العشوائي".

ويشدد على أنه "إذا لم يتم ضبط هذا الملف بسرعة من قبل الجهات المعنية، فلا شيء يردع تلك المنطقة من أن تتحول إلى برج حمود ثانية أو إلى صيدا جديدة"، مشيراً إلى أن "معالجة النفايات باتت علمًا وهندسة، ورميها دون حسيب أو رقيب ليس هو الحل، فلو كان هذا المعمل شغّالاً في الحقيقة لكان فتح فرص عمل للأهالي ولكان نتج عنه سمادٌ طبيعيٌ مما يساعد على التحول إلى الزراعات المحلية أيضاً وليس فقط إلى الزراعة البعليّة كالزيتون". ويعتبر أن ما يحدث اليوم هو بمثابة "طمر الموارد"، وذلك "لأن أحداً لا يقوم بفرز البلاستيك والورق وسائر الأمور التي يمكن إعادة تدويرها".

ويعتبر أبي شاكر أن "أي مكان يستقبل النفايات بشكل عشوائي هو تحضير لكارثة كبيرة"، متسائلاً "لماذا نقوم بالأخطاء عينها في أماكن عدة في لبنان؟" داعياً الدولة إلى وضع حد لهذا الفلتان. إلا أنه يرى بتاريخ ملف النفايات في لبنان "أمرا غير مشرّف"، لافتاً إلى "أننا نتجه من الفاشل إلى الأفشل".

وينوه بتجربة بعض البلديات التي تمكنت من حل مشاكل النفايات بوجود بلدية نشيطة وإرادة طيبة، ومن بينها ما يجري اليوم في بلدة "خربة سلم" في بنت جبيل.

تجنباً للتغريم!

أما رئيس البلدية، فيعلل سبب عدم إقفال المكبّ خلال المهلة التي كانت بلديته قد حددتها سابقاً، ويرد على اتهامات البعض بالمماطلة بهذا الملف، مؤكداً أن "الإقفال لا يمكن أن يتم بشكل عشوائي"، شارحاً أنه يقوم اليوم بتحصين البلدية قانونياً لكي لا يتم تغريمها من قبل أصحاب الشركة، وأن المهلة الأولى التي حددت كانت بمثابة إنذار. ويكشف عبر "النشرة" أن البلدية اتخذت قراراً بالإقفال النهائي للمطمر مع بداية السنة الجديدة، مشيراً إلى "أننا سنلزم صاحب الشركة بأن يأخذ النفايات من بلديتين فقط خلال هذه المهلة".

أقصى ما يتمناه أبناء البلدة هو ألا تكون هذه المهلة بمثابة مراوحة من قبل صاحب الشركة لكسب الوقت ولطمر كميات كبيرة من النفايات، يجري بعدها التوصل إلى نوع من "حلّ" يستمر فيه المعمل في "العمل"، فيتأجل الإقفال مرّة جديدة.

بركات دياب ينفي وجود أي نوع من المراوحة وأي تواطؤ مع أصحاب الشركة من قبل أعضاء البلدية، مشدداً على أن "أحداً لا يقبل أن يتم تشويه بيئة بلدته"، ومذكراً بأن مشكلة النفايات هي مشكلة كل لبنان، وليس فقط بلدتنا.

من المعروف إذاً أن المشكلة هي لبنانية بامتياز، ولكن من غير المعروف هو كيف يمكن تسمية هذا المكان الذي ترمى فيه نفايات تلك البلدات الجنوبية الـ12: أهو مطمر؟ أو معمل؟ أو مكب؟ أو شركة؟ وبغضّ النظر عن التسمية، فإن ما يجري هناك معروف ومحدد من قبل الخبراء، وإسمه: "الرمي العشوائي".

فلعلّ الدولة اللبنانية تحثّ "لجانها" الباحثة والمنصبّة على دراسة "خطة جديدة" لحل مشكلة النفايات، على الإسراع باتخاذ قرار جدي لحل هذه المسألة في كل لبنان، بطريقة تليق بالمواطن اللبناني، لا عبر حرق نفاياته أو طمرها بل عبر معالجتها لأنها "مال وموارد".

للاطلاع على ألبوم الصور كاملا،اضغط هنا