طرابلس​، عاصمة الشمال، تشتعل..

قد يكون هذا العنوان كافيًا في أيّ دولة تقدّر مواطنيها وتحترم دماءهم لإعلان الاستنفار العام لوضع حدّ نهائي لكلّ الأعمال الخارجة عن أيّ قانون وأيّ أعراف، لكنه في لبنان بات، للأسف الشديد، "روتينًا" يكاد يصبح من العناوين الثانوية إن لم نقل الهامشية في نشرات الأخبار.

طرابلس تشتعل، لا جديد في الأمر، أصلاً هي ليست المرّة الأولى التي تشتعل فيها المدينة، ولا حتى الثانية أو الثالثة أو الرابعة، هي المرّة الثامنة عشر التي تشتعل فيها ويتكرّر معها السيناريو نفسه، فيما الدولة "تتفرّج"، وإن شعرت ببعض "الخجل"، ترمي بـ"كرة المسؤولية" على غيرها، أو على الخارج نفسه..

هكذا إذًا، في دولة "الفراغ"، دولةٍ موقع الرئاسة فيها مهدّد، فيما رئاسة الحكومة يشغله شخصان الأول مصرِّف والثاني مكلَّف، والبرلمان معطَّل "تضامنًا" مع الحكومة ربّما، يشتعل الوضع الأمني، فيستنفر المسؤولون لتبادل الاتهامات والمسؤوليات، واللجوء لـ"الحلول الموضعية"، دون أن يفكّر أحدهم بأنّ الأوان قد آن لحلّ جذري ونهائي لمرّة واحدة وأخيرة!

جبهاتٌ نارية مفتوحة..

هكذا إذاً، سيطرت عاصمة الشمال من جديد على أحداث عطلة نهاية الأسبوع، التي طبعها الدم الذي سال في أكثر من محور وعلى أكثر من جبهة، ولم يزد من غليانه سوى "تصريحات" بعض المسؤولية وما انطوت عليه من "تهديدات مبطنة" بـ"تصعيد أكبر" تبدو المدينة مُقبلة عليه بكلّ حزمٍ وثقة.

في أقلّ من 24 ساعة، سقط 15 قتيلا ونحو 40 جريحا، منهم 9 جرحى للجيش بينهم ضابطان، حصيلة هي "فضيحة" بحدّ ذاتها لـ"دولةٍ" لم تفعل على مدار 18 جولة سوى "التفرّج"، قبل أن تُطلِق قبل فترة "خطة أمنية" ترحّم البعض على "الحبر" الذي صُرف لكتابتها، وهي التي لم يكن واردًا لها أن تبصر النور عمليا. وفيما أفادت مراسلة "النشرة" عن تراجع حدة الاشتباكات العنيفة التي دارت بعد منتصف الليل وحتى ساعات الفجر على محاور المنكوبين وجبل محسن والبقار والبرانية، حيث لا تزال تُسمع بعض الرشقات النارية الخفيفة بمختلف المحاور، وتسجل حركة غير ناشطة صباحا وخصوصا ان مدارس طرابلس جميعها مقفلة، ما زالت دوريات الجيش تنفذ اوسع انتشار، وهي ردّت ليلا على كافة مصادر النيران واستخدمت القنابل المضيئة لكشف اماكن المسلحين، وقد تم اعتقال عدد كبير منهم.

وخلال الساعات الماضية، لم تتوقف الاشتباكات العنيفة على كل المحاور المحيطة بمنطقة جبل محسن، في باب التبانة والمنكوبين وريفا والقبة ومشروع الحريري وطلعة العمري والحارة البرانية، كما أقفلت الأسواق الرئيسية القريبة من مناطق الاشتباكات، وتحديداً سوقي القمح والخضر، وقطعت طريق طرابلس ـــ عكار الدولية نتيجة تعرضها لرصاص القنص، وصرفت المدارس القريبة من مناطق التوتر طلابها، في حين ألغت مدارس أخرى، بعيدة عن خطوط التماس، ساعات تقوية إضافية لتعويض الطلاب عما فاتهم من دروس بسبب اشتباكات الجولة السابقة. وأُفيد مساءً عن وقوع انفجار في بناية الحلبي في جبل محسن أدى الى انهيار ثلاث طبقات منها، من دون أن يُفاد عن وقوع إصابات، وقد تلقّت مراسلة "النشرة" في طرابلس بياناً لما يسمى بـ"كتيبة الشيخ أبو بكر حمود" بقيادة "ابو الحسن"، أشارت فيه الى أنّها قرّرت التدخّل في المعركة، "وكان اول انجاز لكتيبتنا تفخيخ مبنى الحلبي في جبل محسن"، وأضاف البيان: "إن شاء الله سترون منّا يا أهلنا ما يُرضيكم".

ريفي لميقاتي: إرحل!

إزاء الأحداث المأساوية المتسارعة في طرابلس، لم يلجأ المسؤولون السياسيون إلى خطاب "تهدئة" كما يُفترض، بل كان الشحن لا السياسي فحسب بل المذهبي والطائفي أيضًا سيّد الموقف، ليدخل على الخط أيضًا من يُسمّون بـ"قادة المحاور" الذين باتت المنابر مفتوحة لهم، وكأنّهم "زعماء" لا "مقاتلون".

ولعلّ "السجال" الأكثر "إثارة" كان ذلك الذي دار بين رئيس حكومة تصريف الأعمال ​نجيب ميقاتي​ والمدير العام السابق لقوى الأمن الداخلي اللواء ​أشرف ريفي​، الذي قيل في وقت سابق أنّ ميقاتي استقال من منصبه "كُرمي لعيونه". هكذا، لم يكد ميقاتي يخرج ببيانٍ من وحي أحداث طرابلس يدعو فيه جميع المعنيين أمام مسؤولياتهم، ويشدّد على أنّ طرابلس هي للجميع وصدرها الرحب ومحبتها تتسع للجميع، "اما من يستهدفها فسيلفظه التاريخ وسيحاسب في الدنيا والآخرة على ما جنت يداه"، حتى ردّ عليه اللواء ريفي بعنف قائلاً له: "ماذا تنتظر يا دولة الرئيس؟ اعتكف وارفع الصوت واتخذ القرار لوقف هذه الجريمة، وإلا فلن تقبل منك طرابلس أنت وكل المقصرين أو المتآمرين من أمنيين وسياسيين، أقل من الرحيل، لأن دماء الأبرياء لا ترحم".

وفيما راوحت باقي المواقف "مكانها" وحافظت الإتهامات على "بوصلتها" كلٌّ باتجاه الآخر، لفت كلامٌ لوزير الداخلية والبلديات في حكومة تصريف الأعمال ​مروان شربل​ وصف فيه جولة الاشتباكات الثامنة عشرة في طرابلس، بـ"التحدي الأكبر وليس الأخطر بالنسبة إلى الجيش والقوى الأمنية والسياسيين على حد سواء، على اعتبار أن فريقي القتال يرفضان التراجع ومصران على الاستمرار في المواجهات"، مؤكدا أن "الحسم في عاصمة الشمال يتطلب حسما في مواقف الافرقاء السياسية والوزراء والنواب المحسوبين على فريقي 8 و14 آذار"، مشيرا الى أنه "على الجميع تحمل مسؤولياتهم والإعلان بشكل واضح وصريح عن رفع الغطاء السياسي على المقاتلين ومنح الجيش الصلاحية الكاملة للضرب بيد من حديد".

إلى ذلك، شكل الوضع في طرابلس محور حركة الاتصالات، وكشف رئيس المجلس النيابي نبيه بري انه كان قد أبلغ ميقاتي "ضرورة عدم ترك الوضع في طرابلس على هذا المنوال". ووضع أمامه خريطة طريق تتمثل ببقاء ميقاتي وسائر القيادات في المدينة أكثر أيام الاسبوع والتفرغ لمشكلات المدينة، وتبديل قادة الاجهزة الامنية وصولا الى رؤساء المخافر وعدم الوقوف في وجه وحدات الجيش وتمركزها في سائر الاماكن، والمطلب الاخير كان دعا اليه رئيس كتلة "المستقبل" فؤاد السنيورة وأيده فيه بري.

كلمة أخيرة..

هي الجولة الثامنة عشرة إذًا..

18 جولة والدولة تتفرّج، تستنكر وتتعهّد، تعهّدات كانت كلّ جولة تأتي لتفضح زيفها..

اليوم، بلغت أحداث طرابلس، وتبدو الجولة الثامنة عشر "الأخطر" والأكثر "تطرّفًا"، بل إنها تبدو وكأنها شرّعت البلاد أمام "المجهول"..

الآن، ليس الوقت مناسبًا لتبادل الاتهامات ولا لرمي كرة المسؤولية، كما يفعل المسؤولون.

الآن، يفترض من الجميع، دون استثناء، تحمّل المسؤولين، قبل فوات الأوان لأنّ الندم بعدها لن ينفع!