لكل حدث تفاعلاته. تبادل الاتهامات بين وزير الاشغال غازي العريضي ووزير المال محمد الصفدي كان يمكن ان يحدث «إنفجاراً» في مكان آخر غير لبنان. امّا هنا، فلم يطل الوقت قبل أن يتبيّن أنها مجرّد قنبلة صوتية انتهت مفاعيلها بانتهاء مفعول صوتها. فالصدمة حرّكت أجهزة ومؤسسات وشخصيات لكل منها حساباته في لعبة السياسة المحلية. تحرّكوا فقط لأنهم يريدون تسويق فكرة أو مشروع، أو اقتطاع حصّة من الأجواء، أو الكشف عن نوع الملائكة التي ينتمون إليه على حساب فضائح الآخرين.

آخر بيان خرج على أنقاض قصّة العاصفة و«الطوفان العظيم» في نهر الكوكودي، نصّه الأمين العام للمجلس الأعلى للخصخصة زياد حايك. لا أحد يعلم كيف ابتكر حايك هذه الفكرة التي تقول إن «لبنان لم يكن ليعاني مشكلة غرق الطرق بمياه الأمطار لو كان تلزيم إنشاء هذه الطرق وإعادة تأهيلها وصيانتها يجري على قاعدة الشراكة بين القطاعين العام والخاص، أو على الأقل لما كانت المسؤولية في هذه الحالة تبقى عائمة إذا حصلت المشكلة، إذ يمكن مقاضاة المسؤول، وهو الشركات المتعاقد معها».

لم يكتف حايك، وهو موظّف في الدولة ويتقاضى اجره من اموال الضرائب، بطرح هذه الفكرة التسويقية للخصخصة كبديل عن دولة عاجزة، بل حاول إيجاد أساس صالح لاستكمال عملية التسويق عبر «تسفيه» آليات التلزيم التقليدية (اي القانونية) لمصلحة الشراكة المزعومة، قال: «إذا أرادت الحكومة اليوم إنشاء طريق ما أو إعادة تأهيلها، تلجأ، وفق آلية التعاقد التقليدية، إلى إجراء مناقصة، تجري بموجبها إرساء عقد الإنشاء أو الإصلاح على صاحب العرض الأدنى سعراً. ويكون الفائز بالمناقصة مقاولاً، ويسعى عادة إلى تنفيذ الأشغال بأقل تكلفة ممكنة له سعياً إلى تحقيق أكبر قدر من الأرباح من المشروع، وهذا غالباً ما يعني استعمال مواد واتباع اساليب عمل قد لا تكون الأفضل. بسبب ذلك، تتدهور حالة الطريق بأسرع مما هو متوقع في السنوات القليلة التي تلي تنفيذها. وبما أن أي أعمال معينة للإصلاحات أو الصيانة لم تكن مشمولة بالمناقصة الأصلية، تسوء نوعية الطريق وتبقى كذلك أشهراً أو سنوات قبل أن تتحرك الحكومة مجدداً، ويجري تخصيص الاعتمادات لأعمال الإصلاح. أما في مناخ الشراكة بين القطاعين العام والخاص... فالامر مختلف»، يخلص حايك.

يقدّم كلامه كما لو أنه مبني على معرفة واسعة بقوانين المحاسبة العمومية وبإجراءات التلزيم والمناقصات... لكن ما قاله يشي أنه يمارس التعمية على طرق التلزيم (غير التقليدية) التي اتبعتها وزارة الاشغال، وهي مخالفة لقوانين المحاسبة العمومية والمناقصات، إذ إن كل التلزيمات تجري بواسطة استدراج العروض المحصور، لا بالمناقصة، وهي استدراجات عروض محصورة «مدبّرة» كما ورد في إحدى المرات في تقرير وضعه أحد قضاة ديوان المحاسبة ومزّقته يد السياسة قبل إصداره.

حايك يعلم أن أي تلزيم تقوم به الدولة اللبنانية، وفق الطرق التقليدية التي يحاول «تقزيمها»، لها اصول لو اتبعت ابتداء بالمناقصات وبالأشغال وتنفيذها والإشراف عليها وتسلّمها وقدرة التغريم، وغيرها من العناصر التي تعد اساساً لسداد أي مبالغ او أموال متوجبة للمتعهد، أو الإفراج عن كفالته... لما كان قد حدث ما يحدث، ولما كان حايك نفسه مضطرا في كل مناسبة إلى تسويق الشراكة بين القطاع العام والخاص بوصفها «حلّالة المشاكل».

إلا أن ما صرّح به حايك في مناسبة «طوفان» نفق الكوكودي، يطرح علامات استفهام كبيرة، فهو يعلم ان عقد الصيانة في هذا النفق تحديدا هو شكل من اشكال الشراكة بين القطاع العام والخاص. ألم يلزّم مجلس الإنماء والإعمار صيانة النفق لشركة MEAS ثم هي لزّمته للمتعهد؟ نتائج الشراكة المزعومة واضحة منذ يوم الاربعاء الماضي.

وفي سياق متصل، قال رئيس لجنة الأشغال النيابية النائب محمد قباني، إن «السجال الحاصل بين الوزيرين محمد الصفدي وغازي العريضي يكشف مدى الفساد الذي تعانيه البلاد على مستوى عال»، إلّا أن قباني نفسه يعتقد أن محاسبة أي من الوزيرين امر شبه مستحيل من دون رضى الزعيم الذي ينتمي إليه هذا الوزير أو ذاك. وبالتالي، فإن انتقادات قباني جاءت لتكمل حملة «شماتة» نواب تيار المستقبل على الوزيرين لأسباب سياسية بحتة لا دخل لها بالفساد أو بمكافحته، وكأن شركات مثل سوكومي والفطيم وسوليدير وطيران الشرق الاوسط وتعديات كثيرة على الأملاك العامة لم تسبب أي فيضان.

بعض التعليقات على الموضوع أخذت طابعاً اشمئزازياً مثل النائب السابق اسماعيل سكرية، الذي قال: «أن تشاهد الفساد يقارع الفساد كما حصل البارحة على الشاشات المرئية، هو متعة ما بعدها متعة لما ترسمه من مشهد لطوفان الفساد وفائض ثقله، كما هي صورة بشعة ومخجلة في آونة واحدة، والأغرب والأقسى في ذلك، أن ما حصل لا يختلف وقعه في بلد التعددية والديموقراطية عن أي حدث آخر».

ثمة من يقول إن اللبنانيين مسلوبو العقول، وإن كل ما يحصل يخدّرهم أو يزيدهم تخديراً. فكل مصيبة لا تحرّك إلا السنتهم ومشاعرهم الجياشة حصراً، أما تعبيرهم عن هذه المشاعر، فهو امر شبه مستحيل.