لا يروي السياسي كأس ماء لعطشان ولا يكسو عرياناً ثوب حب، في عيد الميلاد، إلا عندما يتلاقى الأمر مع مصالحه الانتخابية، وبوجود كاميرا. فجأة يملأ فراغ أجندته السياسية بحفلات توزيع الهدايا تحت عنوان «نشر فرحة العيد»، فيخفي كراهيته ببعض من «الإنسانية» وجرعة من «الهضامة» المصطنعة، موحياً للأولاد أنه بابا نويلهم المنتظر

كان يمكن خبر توزيع منسقية الأشرفية في تيار المستقبل «600 هدية على أطفال المنطقة كي يشعروهم بالعيد للسنة السادسة على التوالي» (كما جاء في الخبر) أن يُقرأ كأي خبر عادي عن كرم النواب وتحفظهم حول «أعمالهم الخيرية». إلا أن النائب سيرج طورسركيسيان ارتأى، كما عادته، أن يتمايز عن زملائه فيخصّ أطفال الأشرفية ببابا نويل استثنائي: «الطفل بيرج طورسركيسيان». وبيرج، وفقاً للخبر، هو ابن النائب الحريري «المهضوم» الذي لا تقف نكاته عند حد إنساني أو غيره. تستطيع في الصورة المرفقة بالخبر أن ترى بهجة وإعجاب منسق عام بيروت بشير عيتاني ومدير العلاقات العامة في مكتب الرئيس رفيق الحريري عدنان فاكهاني وأعضاء مكتب ومجلس منسقية بيروت ومخاتير وفاعليات المنطقة بنجل سعادته. ما أهضمه وهو «يمنح» هدية لفتاة تفوقه قامة ووالده من ورائه يشجعه! لا يمكن وصف فرحة طفل محتاج وهو يأخذ هدية من طفل يشبهه، ولكنه «غير محتاج»، ولا فرحة الأهالي بنجل نائبهم «يتكرّم» على أولادهم بهدية. وسط تصفيق حار، يباغتهم بيرج الطَلِق كوالده: «أفضّل أن يحصل على هديتي طفل بحاجة اليها»، يعلو التصفيق مجدداً، وتكاد دموع سيرج تكرّ على خديه البشوشين... ربما سيرافق بيرج والده مستقبلاً الى حملاته الانتخابية، وربما وقتها يوزع تنك الزيت عوضاً عن الألعاب.

لم يكد طورسركيسيان ينتهي من هدايا المستقبل حتى تفرغ لهدايا النائب ميشال فرعون. الأخير، وللمرة الثالثة على التوالي، يقيم حفلاً ميلادياً للأولاد في مجمع ميشال المرّ الرياضي، بعيداً عن الأشرفية. وبدل أن يذهب فرعون وطورسركيسيان والنائب نديم الجميّل الى الأطفال، كلّفوا أهاليهم بإيصالهم من الأشرفية الى الدورة، فكلفوهم أضعاف ثمن الهدية، ومع ذلك أظهروا أنفسهم كفاعلي خير. اللافت هذا العام أن نواب الأشرفية استعاضوا عن «بهلوانيات» طورسركيسيان باستقدام أطول رجل في العالم لتسلية الأطفال.

«أفعال خيرية»... علنية

منذ التمديد لنواب ساحة النجمة وسعاداتهم يمددون فراغ أجنداتهم. سياسياً، لا تأثير جدّياً لهم في الملف السوري ولا في الملف الداخلي، ويصدف أن يأتي عيد الميلاد على طبق من ذهب. سريعاً يعودون الى الضوء. يستنفرون كل في قضائه: اتصالات بمفاتيح القرى الانتخابية، أخرى بالمخاتير، ثالثة برؤساء البلديات، رابعة بإدارات المدارس، خامسة بالكنائس والرعيات لجمع القدر الأكبر من الأطفال. لا شيء يردعهم، لا مبادئ ولا قيم ولا حتى روحية عيد الميلاد. بعضهم مستعد للقيام بأي شيء (أقله تقمصه شخصية بابا نويل كاملة) ليضمن دخوله الى قلوب الأطفال ومنها الى بيوت أهاليهم. حدث ولا حرج هنا عن محبة أصحاب السعادة المفاجئة للاطفال وانطلاقهم لملاعبتهم وحملهم على الأكتاف. إذا التقى أحدهم بهؤلاء الأطفال في أي مناسبة أخرى، فإنه لن يتكبد عناء النظر الى الأسفل لرؤيتهم. لذلك، غالباً ما تتحول هدايا الميلاد الى «أهداف انتخابية» تفرض على النائب أو المرشح عدم إبقاء مساعداته «الانسانية» سرّاً بل نشرها على القمر إذا تطلب الأمر. تختلف هنا النشاطات الميلادية الانتخابية عن المهرجانات والخدمات الروتينية، فالفرصة متاحة للقبض على ما لا يقل عن مئة عائلة بحفل أو «ريسيتال»، أي ما يزيد على خمسمئة صوت انتخابي. بعضهم كالنائب فرعون وصحبه يريدون للأولاد وأهاليهم أن يأتوا اليهم من أجل هدية لا يتجاوز ثمنها ثلاثة دولارات، وبعضهم كوزير الاتصالات نقولا صحناوي ومرشح التيار الوطني الحر عن المقعد الأرثوذكسي زياد عبس يتحولان الى بابا نويل جوال في باصه الأحمر المليء بالهدايا، فيقصدان بأنفسهما طلاب المدارس. لم يجد الأخيران حرجاً في «امتطاء» سقف البوسطة، مع الممثل جورج خباز، لتوزيع الهدايا. غزلان ثنائي الأشرفية لم تقدهما هذه السنة إلا الى مدرستين مقابل خمس في العام المنصرم. والسبب: «الميزانية»، علماً بأن الهدايا الموزعة بغالبيتها يشبه بعضها بعضاً لدى معظم السياسيين: باربي مصنوعة في الصين، عدة للرسم، مضرب خشبي، أدوات منزلية بلاستيكية للفتيات وبنادق للفتيان.

يختلف المتن الشمالي عن غيره من الأقضية. تزيد حماسة الساسة كلما شعروا بالمنافسة، فيجدون الدوافع اللازمة في كمية المرشحين الطامحين الذين لا يتوانون عن استغلال المناسبات لإثبات وجودهم على الأرض وبين المتنيين. انقطعت هذا العام جمعية الـ«يد، (المرشح المتفائل دائماً جان أبو جودة والنائب نبيل نقولا) الممدودة». تفرّق الحليفان، فاختار المرشح الذي فشل في تسويق نفسه أمام الأحزاب وبالتالي غالباً ما ينسحب من المنافسة لعدم تبنيه من أي جهة، أن يمدّ يده للنائب سامي الجميل. تولى أبو جودة توزيع الهدايا لطلاب مدرسة المروج الصغار، فيما اهتمّ سامي بالكبار. أما نقولا، حليف أبو جودة السابق، فقد اختار من أراضي المتن ثمانية أولاد فقراء تولى السفر برفقتهم (وكاميرا الـ«أو تي في») الى «ديزني لاند» فرنسا. ويوزع نقولا اليوم «أطباق ساخنة» على 120 عائلة متنية.

هدايا «بسمنة»

في كل عام لا يكبّد المرشح سركيس سركيس عناء توزيع الهدايا على الأطفال. لا يرى في الأمر إفادة انتخابية ما دام يوزعها «تمويلاً» على صانعي اللوائح الانتخابية. يستعيض عنها بمجموعة هدايا يرسلها الى أهالي بلدته قرنة شهوان ومحيطها. وفيما كان المرشح الآذاري الكاثوليكي ميشال مكتف يستعين بمجمع ميشال المر ويحيط نفسه ببعض من مفاتيحه الانتخابيين والرجل الأطول في العالم لإبهاج الأولاد، كانت زوجته السابقة، نيكول أمين الجميل، تفتتح معرضها السنوي في بكفيا بحضور آل الجميل أجمعين قائلة: «الميلاد عنا». غالباً ما يكتفي الجميليون بهذا المعرض ليدعوا المتنيين اليه، على اعتبار أن بكفيا مركز المتن الرئيس وربما كل لبنان. أما مكتف فقد خطب بالأطفال مشيراً الى «معاناة الأولاد اللاجئين من سوريا التي حرمتهم فرحة العيد»، لافتاً الى أن «لبنان الذي يتعاطف كثيراً مع هؤلاء بذل أقصى إمكاناته في سبيل مساعدتهم حتى فاق الأمر كل قدراته وبات يشكل تهديداً لأبنائه». وضع الأولاد ألعابهم جانباً، صفقوا لمكتف، ثم تابعوا اللعب.

يمكن الهدايا أيضاً أن يكون بعضها «بسمنة» وبعضها «بزيت». صعّب المرشح الكاثوليكي في التيار الوطني الحر جورج عبود المهمة على أخصامه العونيين، عبر نوعية الهدايا التي وزعها وعدد الحفلات الميلادية التي أقامها. لم يصدّق أولاد الخنشارة وجورة البلوط وبرج حمود وضبيه ما تلقوه: «بلاي ستايشن»، ساعات «سووتش»، مناديل باهظة الثمن وغيرها من «الهدايا البرجوازية». أراد عبود أن يتميز فكان له ما أراد. من يقنع هؤلاء الأطفال لاحقاً بضرورة الابتهاج بهدية رخيصة لا بل عادية يبتاعها أهاليهم لهم في المناسبات الأخرى عندما يفرغ كيس عبود الميلادي؟ سيوزع عبود في اليومين المقبلين الهدايا في الدكوانة والمحيدثة... انتظروه، علماً بأن عبود أيضاً شارك النائب إبراهيم كنعان وهيئة التيار في قضاء المتن توزيع الهدايا في مجمع النائب ميشال المر الذي يبدو أنه قبلة كل السياسيين... ما عدا المر نفسه. فأبو الياس اعتاد دائماً أن يزوره بابا نويل ويهنئه، وغالباً ما ينتظره أمام المدخنة في بتغرين، وإن تجرأ على الغياب، فالعقاب آت. لا بد أن يكون لبابا نويل ملف كغيره من رؤساء البلديات والمخاتير في أدراج العمارة.

«دون» صوايا جزين

لا يفوّت المرشح جاد صوايا الجزيني مناسبة إلا ليظهر نفسه بابا نويل بربطة عنق. تجده في الـ«أو تي في» يشتري أسهماً ويتبرع بسيارات ومنازل. يعيّن موظفين ويقيل آخرين، يخترع برنامجاً اجتماعياً تلفزيونياً لزوجته ثم يخترع لنفسه برنامجاً آخر. يخبرك أحد العونيين أنه رعى أمس ريسيتال التيار الوطني الحر الميلادي هذا العام، الذي جرت العادة أن يكون برعاية النائب ميشال عون وحضوره. أخيراً، نظم صوايا لأولاد جزين في عيد الميلاد رحلة الى بيروت لحضور السيرك، في ظل «تململ» بعض عونيي جزين من طريقة اقتحام «دون» صوايا للحصن البرتقالي. أما النائب زياد أسود فيغيب هذا الميلاد عن الأولاد للمرة الأولى منذ 15 عاماً، «لظروف خاصة صحية وعائلية ومادية».

في زحلة، تولت ميريام سكاف نشاط زوجها النائب السابق إيلي سكاف الميلادي، فأطلقت الزينة الميلادية «الأضخم في الشرق الأوسط» (حسب ما يجري تداوله في عروس البقاع) والتي شملت نحو 8000 شجرة، إضافة الى 4500 هدية جعلت النائب إيلي ماروني يفكر مرتين قبل المبادرة الى نشاط ميلادي. أما القوات، فخبر احتفالها بالميلاد يتحدث عن نفسه: «نظمت القوات اللبنانية بالتعاون مع فرقة «بوم» احتفالاً بذكرى ميلاد السيد المسيح في حضور النائب شانت جنجنيان (...)». انتهى الخبر. وفي قضاء بعبدا، قدم المرديون هدية الى رئيس تيار المردة سليمان فرنجية عبر إعلانهم افتتاح مكتب للتيار في منطقة الحدت، فيما أجرى نواب التيار الوطني الحر وهيئة القضاء احتفالاً في جامعة الحكمة في فرن الشباك. أما كتائب بعبدا، فوزعت بعض بطاقات المعايدة، فيما بادر القواتيون الى توزيع النبيذ على مناصريهم. ليست بعبدا المكان الأنسب للكتائب والقوات لتوزيع الهدايا. تغيب الأهداف الانتخابية وتغيب معها هدايا الأطفال. أخيراً، يشير أحد المسؤولين القواتيين الى إلغاء جعجع لحفلتي عيد الميلاد ورأس السنة في معراب هذا العام، لا حداداً على «دراما» معلولا و«مقتل شخص ما» أو خطف رجال دين وراهبات بالتأكيد، بل ربما تعاطفاً مع معتقدات خاطفيهم.

أنشودة شاكر ومسرح زهرا

لا يكفّ تيار المستقبل عن مفاجأة المواطنين، خصوصاً في المناسبات والأعياد. يسرّ التيار المنفتح أن يقدّم إليكم شجرة «مؤسسة الحريري» الميلادية ذات الألف لمبة، المنتصبة في صيدا بهية الحريري أو أحمد الأسير أو «العيش الواحد»، لا فرق. ويرجى الانتباه هنا إلى أن المستقبل تقصّد وضع مسجد بهاء الدين الحريري في خلفيتها، كما يقول الخبر، لإضفاء «رونق خاص على مدخل المدينة الشمالي». فاته أن يعد الوافدين بتعزيز العيش المشترك عبر بث أنشودة فضل شاكر الميلادية حصرياً. وفي طرابلس، أضاء «المستقبل» شجرة عملاقة في الميناء. وقد أصرّ النائب مصطفى علوش على النائب الكتائبي سامر سعادة مساعدته في الضغط على زر الإضاءة، إلا أن علوش ورفاقه وقادة المحاور لم يضمنوا لسعادة عدم إحراق الشجرة مرة ثانية وثالثة ورابعة أو إطلاق الرصاص على أرجلها. أما القوات اللبنانية فربما احتارت بين إرسال مستشار رئيس الهيئة التنفيذية، وهبي قاطيشا، لافتتاح مغارة ميلادية في معلولا لدحض مزاعم أصحاب «الدراما الكبيرة الذين يصورون الصراع في معلولا على أنه طائفي» (حسب خطاب جعجع الأخير) أو الرأفة بالسوريين وحصر «أرثوذكسية» قاطيشا ضمن حدود عكار، فكانت الأفضلية للخيار الثاني. ليس بعيداً عن قاطيشا زميله في القوات النائب أنطوان زهرا. استغل الأخير عرضاً مسرحياً للأطفال، خلال افتتاح القرية الميلادية في مركز منسقية القوات اللبنانية في بلدة بجدرفل البترون، ليرد على الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله: «نرفض أية مشاركة بالسلطة مع حزب الله وعدم الذهاب معهم الى حكومة واحدة وهذا أمر محسوم (…) ليضعوا بقدر ما يريدون نقاطاً على السطور، فليسوا هم من يرسم مصير الشعب اللبناني، وقد كان غيرهم أكبر وأقوى وأشرس ويدير إمبراطوريات». لم يبد أي من الأطفال تعجّبهم لما يجري، بل على العكس «هيّصوا» بإعجاب لعرض زهرا