لقد اصبح من شبه المؤكد أن الدستور المصري سوف يحصل على الـ" نعم"، بعد التحشيد الكبير الذي قام به الفريق أول عبد الفتاح السيسي ودعوته كل المصريين إلى المشاركة بهذا الحدث التاريخي الذي سيغيّر وجه مصر العظيمة ويعيد صياغة أمجادها السابقة في لعب دور إقليمي فاعل كما كانت قبل حدوث "ثورات الربيع العربي" والتي كان لمصر فيها نصيب "الاسد"!

إن أهمية هذا الإستفتاء عن سوابقه القديمة، أو التي حدثت مؤخرا في "عصر" الإخوان "قصير الأمد"، كونه يرسل رسائل مختلفة بكل الإتجاهات الداخلية والخارجية فهو يبعث برسائل إطمئنان إلى الخارج الذي كان موقفه قلقا ومتذبذبا حول تسلم السلطة العسكرية دفة الحكم بعد عزل مرسي، والتوجس من إمكانية ممارسة سياسة القمع والبطش تجاه فلول الإخوان، وخاصة بعد الأحداث الخطيرة والعمليات التي قامت بها الأخيرة تجاه القوات المسلحة المصرية في عدد من المناطق المصرية، إضافة إلى ظلال الشك التي خيمت حول مواعيد بدء خارطة الطريق الديموقراطية والتي كانت أولى خطواتها الإستفتاء مع الوعود بإجراء إنتخابات تشريعية ورئاسية تكون ذات قاعدة شعبية وشرعية حقيقية.

أما الرسائل التي وجهت إلى مناصري الإخوان بأن هذا العهد إنتهى وولى، وان معزوفة الإنقلاب على الشرعية هو شعار مزيف وباطل لأن الشرعية الحقيقية هي ما تفرزه هذه الصناديق والتي نضج أصحابها كفاية ليقرروا مستقبل بلادهم لعقود طويلة بعيدة عن الترغيب والترهيب بإسم الدين والشريعة والتخوين.

الجديد في هذا "العرس الديموقراطي" وهي الكلمة التي أصبحت تثير ريبة المصريين لكثرة تداولها منذ ثورة يناير الأولى هو الرغبة بالإنتقام من أفعال "الإخوان" ونية إنقاذية للبلاد من عبث كوادر التنظيم، ورغبة حقيقية في إنجاز المشوار الذي بدأ في كانون الثاني (يناير) 2011 وبات عصياً على الإستكمال. وقد عزز هذا التوجه ما كشف حول النوايا المبيتة للإخوان من أجل عرقلة سير الإستفتاء ومحاولة تشويه نتائجه والتشويش عليه ولكن الإستنفار الأمني العالي والإجراءات العسكرية أفشلت هذا المخطط وحاصرته في بقع صغيرة وجعلته يقتصر على حوادث أمنية عابرة لم تعكر صفوه.

كان مشهد المصريين في شوارع مصر خلال اليومين الماضيين خير دليل على ذلك، فقد إصطفوا في طوابير طويلة رافعين صور الفريق السيسي، بإعتباره رجل مصر القوي ووحده القادر على ردع الأحلام الإخوانية بالعودة إلى كرسي السلطة في مصر على الأقل لسنوات ليست قليلة، وذلك بعد فشلهم الذريع بهذا الإختبار. إنها مواجهة الصناديق المفتوحة لشرعية شعبية جردتها من مرسي وأعطتها للسيسي، وهنا الهدف الآخر ولعله الأهم في مشروع الإستفتاء الذي يبدو أنه الوجه الآخر لطرح مشروع ترشيح السيسي إلى منصب الرئاسة مدعوما بقاعدة شعبية كبيرة ربما هي التي دفعته للتصريح بأنه سيترشح إذا طلب الشعب منه ذلك!.

إعتاد المصريون التصويت بـ"نعم"، من أجل الإستقرار، لكنهم في الوقت نفسه قاموا بثورتين خلال أقل من 3 أعوام، ما يؤكد أنهم صاروا شعباً واعياً لديه القدرة على التمييز الجيد، وأنه لا يسير مغمض العينين وراء أي حاكم أو حزب أو جماعة وهذا هو الرهان الذي سيطبق في الإنتخابات الرئاسية المقبلة، حيث تؤشر المعطيات الحالية على أن الخطأ الذي قد يكون المصريون وقعوا فيه بالسابق غير قابل للتكرار بسبب ازمات التي تعرضوا لها نتيجة هذا السلوك، وان التصويت هذه المرة بنعم، سيكون لاقتناعهم بانجاز الذي تحقق في تعديل دستور 2012 المعطل.

إن نجاح إجراء الإنتخابات سوف يدعم مصداقية القوات العسكرية ووعودها التي أطلقتها في 3 تموز الماضي حول قيادتها البلاد لفترة إنتقالية ومن ثم تسليمها إلى حكم مدني ديموقراطي، وتأكيد قدرتها بحماية البلاد من شغب الإخوان ورغبتهم بالثورة على الثورة. وبهذا يسجل لهم فشلهم في تعميم نظرية ما سمي "بالإنقلاب" على "الشرعية الإخوانية"، وبهذا يكسب من تمكن من إدارة أحوال البلاد بأصعب الظروف بالأولوية في قيادتها بالمرحلة المقبلة حيث لن تكون المواجهة أقل شراسة، وخاصة إذا ما أدرك فلول الإخوان أنهم تعرضوا "لإبادة سياسية" قد لا يستطيعون بعدها "الولادة "من جديدة لسنوات طويلة، ما قد يبقي عامل الفوضى والإضطراب موجودا في الحياة السياسية والأمنية المصرية.

لاشك أن الدستور "المٌستفتى" عليه يتضمن مواداً شديدة الأهمية للمؤسسة العسكرية، مثل تحصينها وحمايتها وحق القضاء العسكري في محاكمة المدنيين في حالات عدة. لكن ما يُقدمه الاستفتاء على الدستور للمؤسسة العسكرية أهمّ بكثير من تلك المواد، فبموجب هذا الاستفتاء تعلن المؤسسة العسكرية قدرتها على إدارة الدفة في المرحلة الحرجة، وبنتائجه قد يصبح رأس المؤسسة العسكرية رئيساً منتخباً، وقد تبدأ من هنا حكاية "الفريق" الذي يمكن أن يخلع بذّته العسكرية ويرتدي بدلاً منها ربطة العنق المدنية كرئيس منتخب على قاعدة شعبية عريضة أكسبته إياها المرحلة الأخيرة.. ألم يشبهه المصريون بجمال عبد الناصر للقرن الواحد والعشرين؟!